رُوِيَ أنه ﷺ كانَ يَقُومُ باللّيل حَتَّى تَوَرّمَتْ قَدَمَاهُ، فقَالَ لهُ جِبْرِيلُ عليه السلام :" أبْق عَلى نَفْسِكَ، فإِنَّ لَها عَلَيْكَ حَقًا ". أي : ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضَات الشاقة، و الشدائد الفادحة، وما بعثتَ إلا بالحنيفية السمحة. أو : ما أنزلناه لتتعب نفسك في تبليغه بمكابدة الشدائد في مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم، كقوله :﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الشُّعَرَاء : ٣]، بل للتبليغ، وقد فعلت. وإطلاق الشقاء في هذا المعنى شائع، ومنه قولهم : أشقى من رائض مُهر، وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول الله ﷺ : إنك شقي، حيث تركت دين آباءك، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى، فردَّ اللهُ ذلك عليهم. والأول أظهر، والعموم أحسن، فإنه نفى عنه جميع الشقاء في الدنيا والآخرة.
﴿إِلا تذكرةً لمن يخشى﴾ أي : ما أنزلناه لتتعب، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله - عزّ وجلّ -، ليتأثر بالإنذار، لرقة قلبه ولين عريكته، أو لمن عَلِمَ الله أنه يخشى بالتخويف، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ ؛ لأنهم المنتفعون بها.
﴿تنزيلاً﴾ أي : أنزل تنزيلاً، أو حالَ كَوْنِ القرآن تنزيلاً، أي : منزلاً ﴿ممّن خلق الأرض والسماوات العلى﴾، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله :﴿ما أنزلنا﴾ ؛ لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات، إثر بيانها بحسب
٢٦٠


الصفحة التالية
Icon