ولمّا كان الخلق - الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام - مقدمًا على الهداية، التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام، عطف بثم المفيدة للتراخي. ولقد ساق عليه السلام جوابه على نمط رائق، وأسلوب لائق ؛ حيث بيَّن أنه تعالى عالم قادر بالذات، خالق لجميع الكائنات، منعم عليهم بجميع النعم السابغات، هادٍ لهم إلى طرق المرْتَفقات.
﴿قال﴾ فرعون :﴿فما بالُ القرونِ الأُولى﴾ أي : ما حالها بعد الموت، وما فعل الله بها ؟ فقال له موسى : هذا غيب لا يعلمه إلاّ الله، وهو معنى قوله :﴿علمها عند ربي﴾، أو ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة ؟ فأجابه عليه السلام بأن العلم بأحوالهم مفصلةً مما لا ملامسة له بمنصب الرسالة، وإنما علمها عند الله عزّ وجلّ. وكأنَّ عدو الله، لما خاف أن يُبهت، ويُفتضح، ويظهر للناس حجة موسى عليه السلام، أراد أن يصرفه عليه السلام إلى ما لا يعني، من ذكر الحكايات التي لا مسيس لها بمنصب الرسالة ؛ فلذلك أعرض عنه، و ﴿قال علمها عند ربي﴾، وهذا أحسن من الأول ؛ لأنه لو كان سؤاله عن أحوالها بعد الموت لأمكن أن يقول له : من اتبع الهدى منهم فقد سلم وتنعم، ومن تولى فقد عُذب وتألّم، حسبما
٢٨٠
نطق به قوله تعالى :﴿والسلام على مَن اتبع الهدى﴾. وقيل : فما بالها لم تبعث كما يزعم موسى، أو : ما بالها لم تكن على دينك، أو : ما بالها كذبت ولم يُصبها عذاب، وكلها بعيدة.


الصفحة التالية
Icon