قلت : والذي يظهر أن الطاغية فَهِمَ قوله تعالى :﴿ثم هدى﴾ أي : إلى الإيمان، فاعترض بقوله : فما بال القرون الأولى لم تؤمن حتى هلكت ؟ فأجابه موسى عليه السلام بقوله :﴿علمها عند ربي﴾، فهو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بمن اهتدى. وقوله :﴿في كتاب﴾ أي : اللوح المحفوظ، فقد أثبتت فيه بتفاصيلها، ويجوز أن يكون ذلك عبارة عن تمكنه وتقريره في علم الله - عزّ وجلّ - تمكن من استحفظ الشيء، وقيده بالكتابة، كما يَلوحُ به قوله تعالى :﴿لا يَضِلُّ ربي﴾ أي : لا يخطئ ابتداء، ﴿ولا ينسى﴾ فيتذكر. وفيه تنبيه على أن كتابته في اللوح المحفوظ ليس لحاجته إليه في العلم به ابتداء أو بقاءًا. وإظهار ﴿ربي﴾ في موضع الإضمار، للتلذذ بذكره، وللإشعار بعلّية الحكم ؛ فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان.
ولقد أجاب عليه السلام عن السؤال بجواب عبقري بديع، حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها، مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شؤونه تعالى، ووصف الحق تعالى بأوصاف لا يمكن عدو الله أن يتصف بشيء منها، لا حقيقة ولا مجازًا، ولو قال له : هو الخالق الرازق، وشبه ذلك، لأمكن أن يغالط ويدعي ذلك لنفسه.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٧٩


الصفحة التالية
Icon