يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿وكم قَصَمْنَا من قرية﴾ أي : كثيرًا أهلكنا من أهل قرية ﴿كانت ظالمةً﴾ بآيات الله تعالى، كافرين بها. وفي لفظ القصم - الذي هو عبارة عن الكسر ؛ بإبانة أجزاء المكسور وإزالتها بالكلية - من الدلالة على قوة الغضب والسخط ما لا يخفى. ﴿وأنشأنا﴾ أي : أحدثنا ﴿بعدها﴾ أي : بعد إهلاكها ﴿قومًا آخرين﴾ ليسوا منهم نسبًا ولا دينًا، ففيه تنبيه على استئصالهم وقطع دابرهم بالكلية. ﴿فلما أحسُّوا
٣٣١
بأسنا﴾
أي : أدركوا عذابنا الشديد إدراك المشاهدَ المحسوس ﴿إِذا هم منها﴾ أي : من القرية ﴿يركُضُون﴾ : يهربون مدبرين راكضين دوابهم. فقيل لهم، بلسان الحال أو المقال من الملَك، أو ممن حضرهم من المؤمنين، بطريق الاستهزاء والتوبيخ :﴿لا تركُضُوا وارجعوا إِلى ما أُتْرفْتُم فيه﴾ من النعم والتلذذ ﴿و﴾ إلى ﴿مساكِنِكُم﴾ التي كنتم تفتخرون بها، ﴿لعلكم تُسألون﴾ ؛ تقصدون للسؤال، إذ كانوا أغنياء، أو للتشاور والتدبر في المهمات والنوازل، أو تُسألون الفداء فَتُفتدَوْا من العذاب، أو تُسألون عن قتل نبيكم وفيم قتلتموه.
قيل : نزلت في أهل حاضُورا قرية باليمن، وكان أهلها العرب، فبعث الله إليهم نبيًا فكذبوه وقتلوه، فسلط الله تعالى عليهم بُخْتنصَّرْ، فقتلهم وسباهم، فلما انهزموا وهربوا قالت لهم الملائكة : لا تركضوا، وارجعوا إلى مساكنكم وأموالكم ؛ استهزاءً بهم، وأتبعهم بُختنصر، فأخذتهم السيوف، ونادى مناد من السماء : يا لَثَارات الأنبياء، فلما رأوا ذلك أقروا بالذنوب حين لم ينفعهم، فقالوا :﴿يا ويلنا﴾ ؛ يا هَلاَكنا ؛ ﴿إِنّا كنا ظالمين﴾ مستوجبين العذاب. وهذا اعتراف منهم وندَم حين لم ينفعهم ذلك.


الصفحة التالية
Icon