٣٥٧
﴿قال﴾ ؛ مبكتًا لهم وتوبيخًا :﴿أفتعبدون من دون الله﴾ أي : متجاوزين عبادته تعالى إلى ﴿ما لا ينفعكم شيئًا﴾ من النفع، ﴿ولا يضُركُم﴾ إن لم تعبدوه، فإنَّ العلم بالحالة المنافية للألوهية مما يُوجب اجتناب عبادته، ﴿أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله﴾، أُفّ : اسم صوت تدل على التضجر، تَضجر عليه السلام من إصرارهم على الباطل، بعد انقطاع عذرهم ووضوح الحق، فأفَّف بهم وبأصنامهم، أي : لكم ولأصنامكم هذا التأفف، ﴿أفلا تعقلون﴾ أن من هذا وصفه لا يستحق أن يكون إلهًا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من أراد أن يكون إبراهيميًا حنيفيًا فليكسر أصنام نفسه، وهي ما كانت تهواه وتميل إليه من الحظوظ النفسانية والشهوات الجسمانية، حتى تنقلب حقوقًا ربانية، فحينئذ يريه الحق ملكوتَ السماواتِ والأرض، ويكون من الموقنين. ، وأمُّ الشهوات : حب الدنيا، ورأسها : حب الرئاسة والجاه، وأكبر الأصنام : وجودك الحسي، فلا حجاب أعظم منه، ولذلك قيل :
وُجودُكَ ذَنْبٌ لاَ يُقَاسُ بِهِ ذَنْبُ
فإن غبتَ عنه، وكسرته، غابت عنك جميعُ العوالم الحسية، وشهدت أسرار المعاني القدسية، فشهدت أسرار الذات وأنوار الصفات، وإلى هذا المعنى أشار ابن العريف رضي الله عنه بقوله :
بَدَا لَكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتتَامُهُ
وَلاَحَ صَبَاحُ كُنْتَ أنْتَ ظَلاَمُهُ
فَأنْتَ حِجَابُ القَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيبهِ
وَلَوْلاَكَ لَمْ يُطْبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٥٥
فَإنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَتْ
عَلَى مَوْكبِ الكَشْفِ المصُونِ خِيَامُهُ
وَجَاء حَدِيثٌ لا يُمَلُّ سَمَاعُهُ
شَهِيٌّ إليْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
إذَا سَمِعَتْهُ النَّفْسُ طَابَ نَعِيمُهَا
وَزَالَ عَنِ القَلْبِ المُعَنَّى غَرامُهُ


الصفحة التالية
Icon