وإذا انفتحت البصيرة بالكلية استولى نورها على نور البصر، فانعكس نور البصر إلى البصيرة، فلا يرى العبدُ إلا أسرار المعاني الأزلية، المفنية للأواني الحادثة، فيغيب عن رؤية الأكوان بشهود المكون. وعِلاَجُ انفتاحها يكون على يد طبيب ماهر عارف بالله، يقدحها له بمرود التوحيد، فلا يزال يعالجها بإثمد توحيد الأفعال، ثم توحيد الصفات، ثم توحيد الذات، حتى تنفتح. فتوحيد الأفعال والصفات يُشهد قُرب الحق من العبد، وتوحيد الذات يُشهد عدمه لوجود الحق، وهو الذي أشار إليه في الحكم بقوله :" شعاع البصيرة يشهدك قرب الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق، لا عدمك ولا وجودك. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان ". فيرى حينئذ من أسرار الذات وأنوار الصفات ما لا يراه الناظرون، ويشاهد ما لا يشاهده الجاهلون. وفي ذلك يقول الحلاج :
قلُوبُ العَارفينَ لَهَا عُيُونٌ
تَرَى مَا لا يُرَى للنَّاظِرِينَا
وأجْنِحَةٌ تَطِيرُ بِغَيْرِ رِيشٍ
إلَى مَلَكُوتِ رَبِّ العَالمِينا
وألْسِنَةٌ بأسْرَارٍ تُنَاجِي
تَغيبُ عن الكِرَامِ الكَاتِبِينا
وقال الورتجبي : الجهال يرون الأشياء بأبصار الظواهر، وقلوبهم محجوبة عن رؤية حقائق الأشياء، التي تلمع منها أنوار الذات والصفات، وأعماهم الله بغشاوة الغفلة وغطاء الشهوة. هـ.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٤٢١
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿قُل﴾ يا محمد :﴿يا أيها الناس إِنما أنا لكم نذيرٌ مبينٌ﴾ أي : أنذركم إنذارًا مبينًا بما أوحي إليَّ من أخبار الأمم المهلَكة، من غير أن يكون لي دخل في الإتيان بما توعَدُونه من العذاب الذي تستعجلونه… وإنما لم يقل : نذير وبشير، مع ذكر الفريقين بعده ؛ لأن الحديث مسوق إلى المشركين فقط. والمراد بالناس :
٤٢٣


الصفحة التالية
Icon