ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته، فقال :﴿مثل نوره﴾ الظاهر، الذي تجلى به في عالم الشهادة، ﴿كمشكاة فيها مصباح﴾ أي : كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ، خرج منها نور كثيف كالمصباح، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ، انفجر من نور النور، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله :﴿المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُري...﴾ إلخ. فالآية كلها من تتمه التمثيل.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٧٧
وقوله تعالى :﴿ولو لم تمسسه نار﴾ قيل : الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة، فيستغني عن الوسائط. وقوله تعالى :﴿نورٌ على نور﴾ أي : نور ملكوته على نور جبروته، ﴿يهدي الله لنوره﴾ أي : لشهود نوره، أو لمعرفة نوره، ﴿من يشاء﴾ من خواص أحبابه، كأنبيائه وأوليائه، فمن لم يشهد هذا النور، ولم يعرفه، لا خصوصية له ؛ يتميز بها عن العوام، فهو من عامة أهل اليمين، ولو كثر علمه وعمله ؛ إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب. وفي الحكَم :" الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته "، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله :(أو كظلمات...) إلخ.
وفي الحِكَم :" الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار ". فالكون عند أهل العيان كله نور، وعند أهل الحجاب كله ظلمة، وهو محيط بهم، فالظلمة محيطة بهم، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه :(مشكاة الأنوار)، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى " النور " : يرجع إلى ما ثبتت به
٧٩