يقول الحق جل جلاله :﴿وقال الذين كفروا﴾ يعني : قريشاً، وهم القائلون :﴿لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَىا رَبَّنَا﴾ [الفرقان : ٢١]، والتعبير عنهم بعنوان الكفر ؛ لذمهم، والإشعار بِعِلِّيَّةِ الحكم، قالوا :﴿لولا نُزِّل عليه القرآنُ﴾، نُزِّل هنا بمعنى أُنْزِلَ، وإلا كان متدافعاً ؛ لأن التنزيل يقتضي التدرج بصيغته، وهم إنما اقترحوا الإنزال جملة، أي : هلاَّ أنزل القرآن، حال كونه ﴿جملةً واحدةً﴾ أي : دفعة واحدة في وقت واحد، كما أنزلت الكتب الثلاثة، وماله أنزل مفرقاً في سنين ؟ وبطلان هذه المقالة الحمقاء مما لا يكاد يخفى على أحد ؛ فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها، ودليل كونها من عند الله، إعجازُها، وأما القرآن الكريم، فبينة صحته، ودليل كونه من عند الله، نظمُه المعجز الباقي على مر الدهور، ولا ريب في أن ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال، ومن ضرورية تغيرها وتجددها تغيرُ ما يطابقها حتماً، على أن له فوائد أخرى، قد أشير إلى بعض منها بقوله :﴿كذلك لنُثبّتَ به فؤادَك﴾ ؛ فإنه استئناف وارد من جهته تعالى ؛ لرد مقالتهم الباطلة، وبيان الحكمة في التنزيل التدريجي. قاله أبو السعود.
أي : أنزلناه كذلك مفرقاً في عشرين سنة، أو ثلاث وعشرين ؛ لنثبت به فؤادك، ونقوي به يقينك، فَكُلَّمَا نزل شيء من الوحي قوي القلب، وازداد اليقين، حتى يصير إلى عين اليقين وحق اليقين. قال القشيري : لأنه لو كان دفعة واحدة لم يتكرر نزول جبريل - عليه السلام - بالرسالة في كل وقت وحين. وكثرة نزوله كان أوجبَ ؛ لسكون قلبه، وكمال رَوْحه، ودوام أُنْسه، ولأنه كان جبريل يأتيه في كل وقت بما يقتضيه ذلك الوقتُ من الكوائن والأمور الحادثة، فكان ذلك أبلغ في كونه معجزة، وكان أبعدَ من التهم من أن يكون من جهة غيره، وبالاستعانة بمن سواه حاصلاً. هـ.