من ذاته، وإنما الوجود للمعاني القديمة الأزلية. فنسبة الكائنات، من بحر المعاني الأزلية، كنسبة ظلال الأشجار في البحار. فظلال الأشجار في البحار لا تمنع السفن من التسيار، فكذلك ظلال الكائنات لا تمنع سفن الأفكار من الخوض في بحار المعاني الأزلية الجبروتية، بل تخرقها، وتخوض في بحار الأحدية الجبروتية، الأولية والآخرية، والظاهرية والباطنية، والعلوية والسفلية، ولا يحجبها عن الله ظل شيء من الكائنات، وإليه الإشارة قوله : ألم تر، أيها العارف، إلى ربك كيف مد الظل، أي : مد ظل الكائنات ؛ ليعرف بها كنز ربوبيته وبطون غيبه، ثم يرفع ذلك الظل عن عين البصيرة، التي أراد فتحها، فتشاهد بطون الأزل وغيب الغيب، وتصير عارفة بالله. ولو شاء لجعله ساكناً، فيقع به الحجاب، فيحجب العبد بسحب الآثار عن شهود الأنوار. ثم جعلنا شمس العرفان عليه أي : على الأثر، دليلاً، فيستدل بالله على غيره، فلا يرى غيره، ثم قبضناه، أي : ذلك الظل، عن قلب السائر أو العارف، قبضاً يسيراً، فيغيب عنه شيئاً فشيئاً، حتى يفنى عن حسه وحس غيره من الكائنات، فلا يشهد إلا المكوِّن ؛ لأن ذلك إنما يكون بالتدرج والتدريب، فإذا تحقق فناؤه رجع إلى شهود الأثر بالله ؛ قياماً برسم الحكمة، وأداءاً لحق العبودية.
وهو الذي جعل ليل القبض لباساً، أي : ستراً ورداء من الهفوات ؛ لأن القبض يغلب فيه السكون، وجانبه مأمون، والنوم - أي : الزوال - سُباتاً، أي : راحة من كد التدبير والاختيار، وجعل نهار البسط نشوراً، تنتشر فيه العلوم وتنبسط فيه المعارف، إن قام صاحبه بآدابه، ولا يقوم به إلا القليل ؛ لأنه مزلة أقدام، ولذلك قال في الحكم :" ربما أفادك في ليل القبض ما لم تستفده في إشراق نهار البسط، لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً ".
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٣٤


الصفحة التالية
Icon