وهو الذي أرسل رياح الواردات الإلهية نُشْراً بين يدي رحمته، أي : معرفته ؛ إذ لا رحمة أعظم منها، وأنزلنا من سماء الغيوب ماءاً طهوراً، وهو العلم بالله، الذي تحيا به الأرواح والأسرار، وتطهر به قلوب الأحرار، لنحيي به بلدة ميتاً، أي : روحاً ميتة بالجهل والغفلة، ونُسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً ؛ لأن ماء المعاني سارٍ في كل الأواني ؛ فماء التوحيد سار في الأشياء كلها، جَهلَ هذا مَنْ جهله، وعرفه من عرفه. وأكثر الناس جاحدون لهذا. ولذلك قال تعالى :﴿ولقد صرفناه بينهم﴾ ؛ فكل شيء فيه سر من حياة هذا الماء، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً وجحوداً له، ولم ينتفع به إلا خواص أوليائه. وبالله التوفيق.
ثم إن هذا الماء إنما يسقى على أيدي الوسائط. وكان القياس تعددهم كتعدد سحابات الأمطار بتعدد الأقطار، لكن خُولف ذلك في حق نبينا ﷺ ؛ تشريفاً لقدره، وتعظيماً لأمره.
١٣٧
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٣٤
يقول الحق جل جلاله :﴿ولو شئنا لبَعَثْنَا في كل قريةٍ نذيراً﴾ أي : رسولاً يُنذر أهلها، ولقسمنا النذر بينهم كما قسمنا المطر، فيخف عليك أعباء النبوة، ولكنا لم نشأ ذلك ؛ فحملناك ثقل نذارة جميع القرى، حسبما نطق به قوله تعالى :﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ [الفرقان : ١] ؛ لتستوجب بذلك الدرجة القصوى، وتفضل على سائر الرسل والأنبياء، ﴿فلا تُطع الكافرين﴾ فيما يدعونك إليه من موافقتهم ومداهنتهم. وكما آثرْتُك على جميع الأنبياء فآثر رضاي على جميع الأهواء، وكأنه نهى للرسول ﷺ عن المداراة معهم، والتقصير في الدعوة ؛ لئلا تغلبه الشفقة عن مقابلتهم بصريح الحق.
قال القشيري :﴿فلا تُطع الكافرين﴾ أي : كُنْ قائماً بحقِّنا، من غير أن يكون منك جنوحٌ إلى غيرنا، أو مبالاةٌ بسوانا، فإنا نَعْصِمُكَ بكل وجهٍ، ولا نرفع عنكَ ظِلَّ عنايتنا بحالٍ. هـ.