ثم قال له :﴿وفعلتَ فَعْلَتك التي فعلتَ﴾ يعني : قتل القبطي، بعدما عدد عليه نعمته ؛ من تربيته، وتبليغه مبلغ الرجال، وبّخه بما جرى عليه مع خبازه، أي : قتلت صاحبي، ﴿وأنت من الكافرين﴾ بنعمتي، حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي، أو : أنت حينئذٍ ممن تفكر بهم الآن، أي : كنت على ديننا الذي تسميه كفراً، وهذا افتراء منه عليه ؛ لأنه معصوم، وكان يعاشرهم بالتقية، وإلا فأين هو عليه السلام من مشاركتهم في الدين.
﴿
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٥٦
قال فعلتُها إذاً﴾ أي : إذ ذاك ﴿وأنا من الضالين﴾ أي : من المخطئين ؛ لأنه لم يتعمد قتله، بل أراد تأديبه، أو : الذاهلين عما يؤدي إليه الوكز. أو : من الضالين عن النبوة، ولم يأت عن الله في ذلك شيء، فليس عليَّ توبيخ في تلك الحالة. والفرض أن المقتول كافر، فالقتل للكافر لم يكن فيه شرع، وهذا كله لا ينافي النبوة. وكذلك التربية لا تنافي النبوة.
﴿ففررتُ منكم﴾ إلى ربي، متوجهاً إلى مدين ﴿لمّا خِفْتُكم﴾ أن تصيبني بمضرة، أو تؤاخذني بما لا أستحقه. ﴿فوهب لي ربي حُكماً﴾ أي : حكمة، أو : نبوة وعلماً، فزال عني الجهل والضلالة، ﴿وجعلني من المرسلين﴾ ؛ من جملة رسله، ﴿وتلك نعمة تمُنُّها عليَّ أن عَبدتَّ بني إسرائيل﴾ أي : تلك التربية نعمة تمُن بها عليّ ظاهراً، وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل، وقهرك إياهم، بذبح أبنائهم، فإنه السبب في وقوعي عندك وحصولي في تربيتك، ولو تركتهم لرباني أبواي. فكأن فرعون في الحقيقة امتن على موسى بتعبيد قومه وإخراجه من حجر أبويه. فقال له موسى عليه السلام : أَوَ تلك نعمةٌ تَمُنٌُّها عَلَيَّ ؛ استعبادك لهم، ليس ذلك بنعمة، ولا لك فيها عليَّ منة، وتعبيده : تذليلهم واستخدامهم على الدوام. ووحد الضمير في " تمنّها " و " وعبّدتَّ "، وجمعها في " منكم " و " خفتكم " ؛ لأن الفرار والخوف كان منه ومن ملئه المؤتمرين به، وأما الامتنان فمنه وحده.