سمعت، لولا أن ربطنا على قلبها وثبتناه ؛ لتكون من المؤمنين الواثقين بعهد الله، لا بتبني فرعون. قال يوسف بن الحسن : أمرتُ أُم موسى بشيئين، وبُشرت ببشارتين، فلم ينفعها الكل، حتى تولى الله حياطتها، فربط على قلبها.
﴿وقال لأخته﴾ مريم :﴿قُصّيهِ﴾ : اتبعي أثره ؛ لتعلمي خبره، ﴿فَبَصُرَت به﴾ أي : أبصرته ﴿عن جُنُبٍ﴾ ؛ عن بُعدٍ. قال قتادة : جعلت تنظر إليه كأنها لا تريده، ﴿وهم لا يشعرون﴾ أنها أخته، وأنها تقصه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ينبغي للعبد، الطالب لمولاه، أن يصبح فارغاً من كل ما سواه، ليس في قلبه سوى حَبيبه، فحينئذٍ يرفع عنه الحجاب، ويُدخله مع الأحباب، فعلامة المحبة : جمع الهموم في هَم واحد، وهو حب الحبيب، ومشاهدة القريب المجيب، كما قال الشاعر :
كَانَتْ لقَلْبيَ أَهْوَاءٌ مُفَرَّقَةٌ
فَاسْتَجْمَعَتْ، مُذَ رَأَتْكَ الْعَيْنُ، أَهْوَائِي
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٥٠
فَصَارَ يَحْسُدُنِي مَنْ كُنْتُ أَحْسُدُهُ
وَصِرْتُ مَوْلى الورى مُذْ صِرْتَ مَوْلائِي
تَرَكْت لِلنَّاسِ دنياهم ودينَهُمُ
شُغْلاً بِذِكْرِكَ يا دِينِي ودُنْيائِي
فَرِّغْ قلبك من الأغيار تملأه بالمعارف والأسرار. والأغيار : جمع غَيْرٍ، وهو ما سوى الله، فإن تلاشى الغير عن عين العبد ؛ شهد مولاه في غيب ملكوته، وأسرار جبروته، وفي ذلك يقول القائل :
إِنْ تَلاَشَى الكَوْنَ عَنْ عَيْنِ قَلْبي
شَاهَدَ السِّرُّ غَيْبَهُ في بيَانِ
فَاطْرَح الكَوْنَ عَنْ عِيَانِكَ، وَامْحُ
نُقْطَةَ الْغَيْنِ إِنْ أَرَدْت تَرَانِي
فمن شاهد حبيبه كاد أن يبدي به، ويبوح بسره ؛ فرحاً واغتباطاً به، لولا أن الله يربط على قلبه، ليكون من الثابتين الراسخين في العلم به، وإن أبدى سر الحبيب سلط عليه سيف الشريعة، وبالله التوفيق.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٥٠