ثم قال تعالى :﴿وأن أَلْق عَصَاكَ﴾، أي : نودي : أن ألق عصاك، فألقاها، فقلبها الله ثعباناً، ﴿فلما رآها تهتزُّ﴾ ؛ تتحرك ﴿كأنها جانٌّ﴾ ؛ حية رقيقة. فإن قيل : كيف قال في موضع :(كأنها جان)، وفي أخرى :﴿فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ [الأعراف : ١٤٣] ؟ قلت : هي في أول أمرها جان، وفي آخر أمرها ثعبان ؛ لأنها كانت تصير حية على قدر العصا، ثم لا تزال تنتفخ حتى تصير كالثعبان، أو : يُريد في سرعة الجان وخفته، وفي قوة الثعبان. فلما رآها كذلك ﴿ولّى مُدْبِراً ولم يُعقِّبْ﴾ ؛ ولم يرجع عقبه. فقيل له :﴿يا موسى أقبلْ ولا تخفْ إنك من الآمنين﴾، أي : أمنت من أن ينالك مكروه من الحية.
و ﴿اسلكْ﴾ : أَدْخِلْ ﴿يدكَ في جَيْبِكَ﴾ ؛ جيب قمصيك ﴿تخرج بيضاءَ﴾ لها شعاع كشعاع الشمس ﴿من غير سُوءٍ﴾ ؛ برص. ﴿واضمم إليك جناحكَ من الرَّهْبِ﴾، أي : الخوف، فيه لغات :" الرُّهبُ "، بفتحتين، وبالفتح والسكون، وبالضم معه، وبضمتين. والمعنى : واضمم يدك إلى صدرك ؛ يذهب ما لحقك من الخوف لأجل الحية، وعن ابن عباس رضي الله عنه :(كل خائف، إذا وضع يده على صدره، ذهب خوفه). وقيل : المراد بضم يده إلى جناحه تجلده، وضبطه نفسه عند انقلاب العصا حية، حتى لا يضطرب ولا يرهب، استعارة من فعل الطائر ؛ لأنه إذا خاف ؛ نشر جناحيه وأرخاهما.
﴿فذانِك﴾ أي : اليد والعصا، ومن شدد ؛ فإحدى النونين عِوَضٌ من المحذوف، ﴿بُرهانان﴾ أي : حجتان نيرتان. وسميت الحجة برهاناً ؛ لإنارتها، من قولهم : بَره الشيء : إذا ابيض، والمرأة بَرهَاءُ وَبرَهْرَهَةٌ : أي : بيضاء. ﴿من ربك إلى فرعون وملئه﴾ أي : أرسلناك إلى فرعون وقومه بهاتين الحجتين، ﴿إنهم كانوا قوماً فاسقين﴾ : خارجين عن الحق، كافرين بالله ورسوله.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٦٢


الصفحة التالية
Icon