ثم أَمَرَ ببنيان الصرح زيادة في الطغيان، بقوله :﴿فأوقِدْ لي يا هامانُ على الطين﴾ أي : اطبخ لي الآجر واتخذه. وإنما لم يقل مكان الطين : آجرّ ؛ لأنه أول من عمله، فهو معلمه الصنعة بهذه العبارة، ﴿فاجعل لي صرحاً﴾ أي : قصراً عالياً، ﴿لعَلِّي أَطَّلِعُ﴾ أي : أصعد. فالطلوع والاطلاع : الصعود، ﴿إلى إِلهِ موسى﴾، حسب الجاهل أنه في مكان مخصوص، كما كان هو في مكان، ﴿وإِني لأظنه﴾ أي : موسى ﴿من الكاذبين﴾ في دعواه أن له إلهاً، وأنه أرسله إلينا رسولاً.
وهذا تناقض من المخذول، فإنه قال أولاً :﴿ما علمتُ لكم من إله غيري﴾، ثم أظهر حاجته إلى هامان، وأثبت لموسى إلهاً، وأخبر أنه غير متيقن بكذبه، وهذا كله تهافت. وكأنه تحصن من عصى موسى فلبّس وقال :﴿لعلِّي أطلعُ إلى إله موسى﴾. رُوي أنه لما أمر وزيره هامان ببناء الصرح، جمع هامانُ العمال، خمسين ألف بنّاء، سوى الأتباع والأُجراء - فبنوا، ورفعوه بحيث لم يبلغه بنيان قط، منذ خلق الله السموات والأرض. أراد الله أن يفتنهم فيه، فصعده فرعون وقومه، ورموا بُنُشّابة نحو السماء، فرجعت مُلَطَّخَةَ بالدم، فقال : قد قتلنا إله السماء، فضرب جبريل الصرح بجناحه، فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون، فقتلت ألفَ ألفِ رجل، وقطعة على البحر،
٢٦٧
وقطعة في الغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا هلك. هـ.
﴿واستكبر هو وجنوده﴾ ؛ تعاظم ﴿في الأرض﴾ ؛ أرض موسى ﴿بغير الحق﴾ ؛ بغير استحقاق، بل بالباطل، فالاستكبار بالحق هو لله تعالى، وهو المتكبر المتعالي، المبالغ في كبرياء الشأن، كما في الحديث القدسي :" الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قصمته "، أو : ألقيته في النار، وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق. ﴿وظنوا أنهم إلينا لا يُرجَعُون﴾ بالبعث والنشور. وقرأ نافع وحمزة والكسائي : بالبناء للفاعل. والباقي : للمفعول. والله تعالى أعلم.


الصفحة التالية
Icon