يدعون معه غيره، لزوال ما ينازع الفطرة بالقهرية. ﴿فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقْتَصِدٌ﴾ ؛ مقيم على الطريق القصد، باقٍ على الإيمان، الذي هو التوحيد، الذي كان منه في حال الشدة، لم يعد إلى الكفر، أو : متوسط في الظلم والكفر، انزجر بعض الانزجار. ولم يَغْلُ في الكفر والعدوان. أو مُقْتَصِدٌ في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني : أن ذلك الإخلاص لحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط، إلا النادر، ﴿وما يجحد بآياتنا﴾ أي : بحقيقتها ﴿إلا كل ختَّارٍ﴾ ؛ غدار. والختْر : أقبح الغدر، ﴿كفورٍ﴾ لنعم ربه. وهذه الكلمات متقابلة ؛ لفظاً ومعنى، فَخَتَّارٌ : مقابل صبّار، وكفور : مقابل شكور ؛ لأن من غدر لم يصبر، ومن كفر لم يشكر. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ألم تر أن الله يُولج ليل القبض في نهار البسط، ونهار البسط في ليل القبض، فهما يتعاقبان على العبد تعاقب الليل والنهار، فإذا تأدب مع كل واحد منهما ؛ زاد بهما معاً، وإلا نقص بهما، أو بأحدهما. فآداب القبض : الصبر والرضا، والسكون تحت مجاري الأقدار. وآداب البسط : الحمد، والشكر، والإمساك عن الفضول في كل شيء. وسخَّر شمس العيان وقمر الإيمان، كلٌّ يجري إلى أجل مسمى ؛ فقمر الإيمان يجري إلى طلوع شمس العرفان، وشمس العرفان إلى ما لا نهاية له من الأزمان. ذلك بأن الله هو الحق، وما سواه باطل. فإذا جاء الحق، بطلوع شمس العيان، زهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً. وإنما أثبته الوهم والجهل. ألم تر أن سفن الأفكار تجري في بحار التوحيد، لترى عجائب الأنوار وغرائب الأسرار، من أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ؟ إن في ذلك لآياتٍ لكل صبَّار على مجاهدة النفس، شكور على نعمة الظَّفَرِ بحضرة القُدُّوسِ.


الصفحة التالية
Icon