يقول الحق جلّ جلاله :﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسانُ أَنَّا خَلقناه من نُطفةٍ﴾ مَذِرة، خارجة من
١٦١
الإحليل، الذي هو قناة النجاسة، ﴿فإِذا هو خَصِيم مبين﴾ بيّن الخصومة، أي : فهو على مهانة أصله، ودناءة أوله، يتصدّى لمخاصمة ربه، ويُنكر قدرته على إحياء الميت بعدما رمّت عظامه. وهي تسلية ثانية له ﷺ، وتهوين ما يقولونه في جانب الحشر، وهو توبيخ بليغ ؛ حيث عجّب منه، وجعله إفراطاً في الخصومة بيّناً فيها.
رُوي أن أَبيّ بن خلف أتى النبي ﷺ بعظم بالٍ، ففتَّه بيده، وقال : يا محمد ؛ أتُرى الله يحيي هذا بعدما رمّ ؟ فقال ﷺ :" نعم ويبعثك ويدخلك جهنم " فنزلت الآية.
﴿وضَرَبَ لنا مثلاً﴾ أمراً عجيباً، بأن جَعَلنا مثل الخلق العاجزين، فنعجز عما عجزوا عنه ؛ من إحياء الموتى، ﴿ونَسِيَ خَلْقَه﴾ من المنيّ المهين، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم. و " خلقه " : مصدر مضاف للمفعول، أي : خلقنا إياه، ﴿قال مَن يحيي العظامَ وهي رميمٌ﴾ بالٍ مفتت، وهو اسم لما بَلِيَ من العظام، لا صفة، ولذلك لم يؤنّث. وقد وقع خبراً لمؤنث، وقيل : صفة بمعنى مفعول، من : رممته، فيكون كقتيل وجريح. وفيه دليل على أن العظم تحله الحياة، فإذا مات صار نجساً، وهو مذهب مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة : لا تحلّه الحياة، فهو طاهر كالشعر والعصب.
﴿قُل يُحْييها الذي أنشأها﴾ خلقها ﴿أولَ مرة﴾ أي : ابتداء، ﴿وهو بكل خَلْقٍ﴾ مخلوق ﴿عليمٌ﴾ لا يخفى عليه أجزاؤه، وإن تفرقت في البر أو البحر، فيجمعه، ويُعيده كما كان.


الصفحة التالية
Icon