فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون}، " كلّ " للإحاطة، و " أجمعون " للاجتماع، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعاً، في قوت واحد، غير متفرقين في أوقات. وظاهر هذه الآية وما في سورة الحِجْر :﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ [الحجر : ٢٩، ٣٠] أن الأمر بالسجود كان تعليقاً، لا تنجيزياً، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه، بل حين أعلمهم بخلقه، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول، وظاهر ما في البقرة والأعراف والإسراء والكهف : أن الأمر كان تنجيزياً بعد خلقه، والجمع بينهما : أنه وقع قبل وبعد، أو : اكتفى بالتعليقي، كما يقتضيه الحديث، حيث قال له بعد نفح الروح فيه :" اذهب فسلِّم على أولئك الملائكة، فسلّم عليهم، فردُّوا عليه وسجدوا له " والله تعالى أعلم بغيبه.
﴿إِلا إِبليسَ استكْبَرَ﴾ أي : تعاظم عن السجود، والاستثناء متصل إن قلنا : كان منهم، حيث عبد عبادتهم، واتصف بصفاتهم، مع كونه جنياً، أو : منقطع، أي : لكن إبليس استكبر، ﴿وكان من الكافرين﴾ أي : صار منهم بمخالفته للأمر، واستكباره عن الطاعة، أو : كان منهم في علم الله. ﴿قال يا إبليسُ ما منعك أن تسجدَ﴾ أي : عن السجود ﴿لِما خلقتُ بيديَّ﴾، بلا واسطة أب ولا أم، امتثالاً لأمري، وإعظاماً لخطابي، ولَمَّا كانت الأعمال تُباشر في الغالب باليد، أطلقت على القدرة. والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام، المستدعي لإجلاله وإعظامه، قصداً إلى تأكيد الإنكار، وتشديد التوبيخ، وسيأتي في
٢٣٢
الإشارة بقية الكلام في سر التثنية. قال له تعالى :﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾، بهمزة الاستفهام، وطرح همزة الوصل، أي : أتكبرت من غير استحقاق، ﴿أم كنت من العالين﴾ المستحقين للتفوُّق، أو : أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك ؟


الصفحة التالية
Icon