وجعل القشيري مناطَ الرد على الكفرة حيث فعلوا ذلك، وقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، بغير إذن الله، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم. فردَّ الله عليهم. قال : وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القُرَبِ، بنشاط نَفْسِه، من غير أن يقتضيه حُكْمُ الوقت، وما يعقد بينه وبين الله تعالى من عقودٍ لا يفي بها، وكان ذلك اتباعُ هوىً. قال الله تعالى :﴿فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد : ٢٧]. قلت : ولأجل هذا وجب على مَن أراد الوصول إلى الله أن يتخذ شيخاً عارفاً بأحكام الوقت، ذا بصيرة بدسائس النفس، فيأمره في كل وقت، وفي كل زمان، بما يناسبه ؛ ليُخرجه من هوى نفسه، وأسر طبعه، وإلا بقي في العنت والبُعد عن الله، يعبد الله على حرف، كلما زاد عبادة وقرباً ـ في زعمه ـ زاد بُعداً من ربه، وهو لا يشعر، فالنفس إن لم تتصل بمَن يرفع عنها الحجاب، كانت كدود القزِّ، تنسج الحجاب على نفسها بنفسها، حتى تموت في وسطه. وفي ذلك يقول الششتري في نونيته رضي الله عنه :
ونحن كَدُودِ القزِّ يحصرُنا الذي
صنعنا لدفع الحصر سجناً لنا مِنَّا
وبالله التوفيق.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٣٦
يقول الحق جلّ جلاله :﴿خلق السماواتِ والأرضَ﴾ أي : وما بينهما من الموجودات، ملتبسة ﴿بالحق﴾ ؛ مشتملة على الحكم والمصالح الدينية والدنيوية ﴿يُكوِّر الليلَ على النهار ويُكوِّر النهارَ على الليل﴾، التكوير : اللّف والليّ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها. والمعنى : أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه، ويلفه لف اللباس باللابس، أو : يغيّبه كما يغيب الملفوف باللفافة، أو : يجعله كاراً عليه كرُوراً متتابعاً، تتابع أكوار العمامة، وهذا بيان لكيفية تصرفه تعالى في السموات والأرض بعد بيان خلقهما، وعبّر بالمضارع للدلالة على التجرُّد.