ثم حرَّض على الامتثال بقوله :﴿للذين أحسنوا﴾ أي : اتقوا الله وأطاعوه ﴿في هذه الدنيا﴾ الفانية، التي هي مزرعة الآخرة. ﴿حسنةٌ﴾ أي : حسنةٌ عظيمة، لا يُكتنه كُنهها، وهي الجنة ونعيمها، أو : للذين أحسنوا بالطاعة والإخلاص حسنة معجّلة في الدنيا، وهي الصحة والعافية، والحياة الطيبة، أو : للذين أحسنوا، أي : حصلوا مقام الإحسان ـ الذي عبّر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله :" أن تعبد الله كأنك تراه " ـ حسنة كبيرة، وهي لذة الشهود، والأنس بالملك الودود في الدارين.
ولما كان هذا المقام لا يتأتى تحصيله إلا في بعض البلاد الخالية من الشواغل والموانع، أمر بالهجرة من الأرض التي لا يتأتى فيها التفرُّغ، فقال :﴿وأرضُ الله واسعةً﴾،
٢٤٦
فمَن تعسَّر عليه التفرُّغ للتقوى، والإحسان وعمل القلوب، في وطنه، فليهاجر إلى بلد يتمكن فيه ذلك، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء، فإنه لا عذر له في التفريط والبطالة أصلاً.
ولمّا كان الخروج من الوطن صعباً على النفوس، يحتاج إلى صبر كبير ؛ ورغَّب في الصبر بقوله :﴿إِنما يُوفى الصابرون﴾ على مفارقة الأوطان، وتحمُّل مشاق الطاعات، وتحقيق الإحسان، ﴿أجْرَهم﴾ في مقابلة ما كابدوه من الصبر، ﴿بغير حسابٍ﴾ بحيث لا يحصى ولا يحصر ؛ بل يصب عليهم الأجر صبّاً، فلهم ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وعن ابن عباس رضي الله عنه :(لا يهدي إليه حساب الحسّاب، ولا يُعرف)، وفي الحديث :" أنه يُنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصيام والحج، فيوفّون بها أجورهم، ولا تنصب لأهل البلاء ؛ بل يُصب عليهم الأجر صبّاً، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل " وكل ما يشق على النفس ويتعبها فهو بلاء، والله تعالى أعلم.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٢٤٦