الأمم السابقة، عند العقلاء منهم، وطالبوها مهانين عند الحكماء الماضية، وما قام داع في أمة إلا حذَّر متابعةَ الدنيا وجمعها والحب لها، ألا ترى مؤمن آل فرعون كيف قال :﴿اتبعون أهدكم سبيلَ الرشاد﴾، كأنهم قالوا : وما سبيل الرشاد ؟ قال :﴿إِنما هذه الحياة الدنيا متاع﴾ أي : لن تصل إلى سبيل الرشاد وفي قلبك محبة الدنيا وطلب لها. هـ.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ٣٠٩
يقول الحق جلّ جلاله، حاكياً عن المؤمن :﴿ويا قوم ما لي أدعوكم إِلى النجاةِ﴾ ؛ إلى السلامة من النار، ﴿وتدعونني إِلى النار﴾ بسلوك أسبابها. كرر نداءهم ؛ إيقاظاً لهم عن سِنة الغفلة، واعتناءً بالمنادَى به، ومبالغة في توبيخهم، وفيه أنهم قومه، وأنه من آل فرعون، وجيء بالواو في النداء الثالث، دون الثاني ؛ لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له، بخلاف الثالث. ومدار التعجُّب الذي يلوح به الاستفهام هو دعوتهم إياه إلى النار، لا دعوته إياهم إلى النجاة، كأنه قيل : أخبروني كيف هذا الحال ؛ أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشر ؟
﴿تدعونني لأكفرَ بالله﴾ هو بدل من (تدعونني) الأول، وفيه تعليل، والدعاء يتعدّى باللام وبإلى، كالهداية، ﴿وأُشركَ به﴾ ؛ وتدعونني لأُشرك به ﴿ما ليسَ لي به عِلٍْمٌ﴾ أي : بربوبيته، والمراد بنفي العلم : نفي المعلوم، كأنه قال : وأُشرك به شيئاً ليس بإله، وما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلهاً ؟ ﴿وأنا أدعوكم إِلى العزيز الغفار﴾ أي : إلى الله الجامع لصفات الألوهية، من كمال القدرة والغلبة، وما يتوقف عليه من العلم والإرادة ؛ إذ بالقدرة يتمكن من المجازاة بالتعذيب، أو الإحسان بالغفران.


الصفحة التالية
Icon