يقول الحق جلّ جلاله :﴿شَرَعَ﴾ أي : بيَّن وأظهر ﴿لكم من الذين ما وَصَّى به نوحاً﴾ ومَن بعده مِن أرباب الشرائع، وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم السلام، وأمَرَهم به أمراً مؤكداً. وفي بيان نسبته إلى المذكورين تنبيه على كونه ديناً قديماً، أجمع عليه الرسل، على أن تخصيصهم بالذكر لِمَا ذكر من علو شأنهم، ولاستمالة قلوب الكفرة إليه ؛ لاتفاق الكل على نبوة جُلهم. قيل : خصّ نوحاً وإبراهيم بالوصية، ونبينا محمداً ﷺ بالوحي ؛ لأن متعلق الوصية غير الموصي، بل الموصى إليه به، ومتعلق الوحي : الموحى إليه بذاته، ولمَّا كان ﷺ آخر الأنبياء جعل المُلقى إليه وحياً، ولمَّا كان ما قبله من الأنبياء متبعين له، ومنذِرين بشريعته، أنه سيظهر آخر الزمان نبي اسمه " محمد "، كان ذلك وصية منهم لقومهم على الإيمان به. انظر ابن عرفة.
قلت : والظاهر أنه تفنُّن، وفرار من تكرار لفظ الوحي ؛ إذ الموحى به هو قوله :﴿أنْ أقيموا الدِّين﴾ وهو الذي أوحي إلى نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وقال أبو السعود : والتعبير عن ذلك عند نسبته ﷺ بـ " الذي " لتفخيم شأنه من تلك الحيثية، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة ـ يعني في صدر السورة ـ من قوله :﴿كذلك يُوحي إليك...﴾ وفي آخرها من قوله :﴿وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا﴾، ولِما في الإيحاء من التصريح برسالته ـ ﷺ ـ القامع لإنكار الكفرة. والالتفات إلى نون العظمة إظهاراً لكمال الاعتناء بإيحائه، وهو السر في تقديمه على ما قبله مع تقدمه عليه زماناً. وتقديم وصية نوح عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم ديناً قديماً ـ أي : فلا ينبغي إنكاره ـ وتوجيه الخطاب إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بطريق التلوين ؛ للتشريف، والتنبيه على أنه تعالى شرع لهم على لسانه عليه الصلاة والسلام. هـ.