ثم بيّن حدّ الانتصار، فقال :﴿وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها﴾ ؛ فالأولى سيئة حقيقة، والثانية مجازاً للمشاكلة، وفي تسميتها سيئة نكتة، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو، ولذلك عقبه بقوله :﴿فمَن عَفَا وأصلحَ﴾ بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء ﴿فأجره على الله﴾، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها، ﴿إِنه لا يحب الظالمين﴾ الذين يبدؤون بالظلم، أو : يتجاوزون حدّ الانتصار. وفي الحديث :" ينادي منادٍ يوم القيامة : مَن كان له أجر على الله فليقم، فلا يقوم إلا مَن عفا ". ﴿ولمَن انتصرَ بعد ظلمه﴾ أي : أخذ حقه بعدما ظُلم ـ على إضافة المصدر إلى المفعول ـ ﴿فأولئك﴾ جمع الإشارة مراعاة لمعنى " مَن " ﴿ما عليهم من سبيلٍ﴾ للمعاقب ولا للمعاتب ﴿إِنما السبيل على الذين يظلمون الناسَ﴾ ؛ يبتدئونهم بالظلم، ﴿ويبغون في الأرض﴾ ؛ يتكبّرون فيها، ويعْلون، ويفسدون ﴿بغير الحق أولئك لهم عذابٌ أليمٌ﴾ بسبب بغيهم وظلمهم. وفسّر السبيل بالتبعة والحجة.
﴿ولَمَن صَبَرَ﴾ على الظلم والأذى، ﴿وغَفَرَ﴾ ولم ينتصر، أو : وَلَمَن صبر على البلاء من غير شكوى، وغفر بالتجاوز عن الخصم، ولا يُبقي لنفسه عليه دعوى، بل يُبري خصمه من جهته من كل دعوى في الدنيا، والعقبى، ﴿إِنَّ ذلك لَمِن عزم الأمور﴾ أي : إن ذلك الصبر والغفران منه لَمِنْ عزم الأمور، أي : من الأمور التي ندب إليها، وعزم على فعلها، أو : مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه، ولا يترخّص في تركه. وحذف الراجع
٣٨٣
ـ أي : منه ـ كما حذف في قولهم : السمن مَنْوَانِ بدرهم. وقال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه، فمَن صبر على مكروه أصابه، ولم يجزع، أورثه الله تعالى حال الرضا، وهو أصل الأحوال ؛ ومَن جزع من المصيبات، وشَكى، وكَلَه إلى نفسه، ثم لم تنفعه شكواه. هـ. وانظر تحصيل الآية في الإشارة، إن شاء الله.