يقول الحق جلّ جلاله :﴿قالت الأعرابُ﴾ أي : بعض الأعراب ﴿آمنّا﴾ نزلت في نفر من بني أسد، قدِموا المدينةَ في سنة جدبة، فأَظْهَروا الإسلام، ولم يُؤمنوا في السر، وأفْسَدوا طُرق المدينة بالعذَرَات، وأغْلَوا أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله ﷺ : أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نُقاتلك كما قتلك بنو فلان، وهم يريدون الصدقة، ويقولون : أعطنا، ويمنّون بإسلامهم.
﴿قل﴾ لهم :﴿لم تؤمنوا﴾ لم تُصدّقوا بقلوبكم ﴿ولكن قولوا أسْلَمنا﴾ فالإيمان هو التصديق بالقلب مع الإذعان به، والإسلام هو الدخول في السِّلْم، والخروج من أن يكون
١٧٦
حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين ؛ ألا ترى إلى قوله :﴿ولمَّا يَدْخُلِ الإِيمانُ في قلوبكم﴾ فهو يدل على أنَّ مجرد النطق بالشهادتين ليس بإيمان، فتحصَّل أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة للقلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلبُ اللسانَ فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة، وأما في الشرع فهما متلازمان، فلا إسلام إلا بعد إيمان، ولا إيمان إلا بعد النطق بالشهادة إلا لعذر.
والتعبير بـ " لمّا " يدل على أن الإيمان متوقَّع من بعضهم وقد وقع. فإن قلت : مقتضى نظم الكلام أن يقول : قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، أو : قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم ؟ قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً، فقيل : قل لم تؤمنوا، مع حسن أدب، فلم يقل : كذبتم صريحاً، ووضع " لم تؤمنوا " الذي هو نفس ما ادَّعوا إثباته موضعه، واستغنى بقوله :﴿لم تؤمنوا﴾ عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ؛ لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل : ولكن أسلمتم ؛ ليكون قولهم خارجاً مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم :" آمنا " كذلك، ولو قيل : ولكن أسلمتم ؛ لكان كالتسليم، والاعتداد بقولهم، وهو غير معتدّ به.


الصفحة التالية
Icon