يقول الحق جلّ جلاله :﴿إِنَّ المتقين في جناتٍ وعيون﴾ عظيمة، لا يبلغ كُنهها، ولا يُقادر قدرها، ولعل المراد بها الأنهار الجارية، بحيث يرونها، ويقع عليها أبصارهم، لا أنهم فيها، ﴿آخذين ما آتاهم ربهم﴾ أي : نائلين ما أعطاهم راضين به، بمعنى أنَّ كلَّ ما يأتهم حسَنٌ مرضي، يتلقى بحسن القبول، ﴿إِنهم كانوا قبل ذلك﴾ في الدنيا ﴿محسنين﴾ متقنين لأعمالهم الصالحة، آتين بها على ما ينبغي، فلذلك نالوا ما نالوا من الفوز العظيم، ومعنى الإحسان ما فسره به عليه الصلاة والسلام :" أن تعبد الله كأنك تراه " الحديث. ومن جملته ما أشار إليه بقوله :
﴿كانوا قليلاً من الليل ما يَهْجعون﴾ أي : كانوا يهجعون، أي : ينامون في طائفة قليلة من الليل، على أن " قليلاً " ظرف ؛ أو كانوا يهجعون هجوعاً قليلاً، على أنه صفة لمصدر، و " ما " مزيدة في الوجهين، ويجوز أن تكون مصدرية مرتفعة بـ " قليلاً " على الفاعل، أي : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم. وقال النسفي : يرتفع هجوعهم على البدل من الواو في " كانوا " : لا بقليلاً ؛ لأنه صار موصوفاً بقوله :﴿من الليل﴾ فبعد من شبه الفعل وعمله، ولا يجوز أن تكون " ما " نافية على معنى : أنهم لا يهجعون من الليل قليلاً ويُحْيُونه كله. هـ. أو كانوا ناساً قليلاً ما يهجعون من الله ؛ لأن " ما " النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، ولأن المحسنسن وهم السابقون كانوا كثيراً في الصدر الأول، وموجودون في كل زمان ومكان، فلا معنى لقلتهم، خلافاً لوقف الهبطي، وأيضاً : فمدحهم بإيحاء الليل كله مخالف لحالته ﷺ، وما كان يأمر به.
﴿وبالأسحارِ هم يستغفرون﴾ وصفهم بأنهم يحيون جُل الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار من رؤية أعمالهم. والسَحر : السدس الأخير من الليل، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يُوصفوا بالاستغفار، كأنهم المختصون به، لاستدامتهم له، وإطنابهم فيه.


الصفحة التالية
Icon