أفرأيتم النارَ التي تُورون} أي : تقدحونها وتستخرجونها من الزناد، والعرب كانت تقدح بعودين، تحك أحدهما على الآخر، ويُسمون الأعلى : الزند، والسفلى : الزندة، شبّهوهما بالفحل والطروقة. ﴿أأنتم أنشأتم شجرتَهَا﴾ التي بها الزناد، وهي المرْخ والعَفَار، ﴿أم نحن المنشئون﴾ الخالقون لها ابتداءً بقدرتنا ؟ والتعبير عن خلقها بالنشأ، المنبئ عن بديع الصنع، المُعْرِب عن كمال القدرة والحكمة ؛ لِما فيه من الغرابة الفارقة بينهما وبين سائر الأشجار، التي لا تخلو عن النار، حتى قيل : في كل شجر نار واستمجد المرخ والعَفَار، كما أنّ التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله :﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ﴾ [المؤمنون : ١٤] كذلك.
ثم بيَّن منافعها، فقال :﴿نحن جعلناها تذكرةً﴾ تذكيراً لنار جهنم، لينظروا إليها، ويذكروا ما وُعدوا به من نار جهنم، أو : تذكرة وأنموذجاً، لما رُوي عن النبي ﷺ أنه قال :" نارُكم هذه التي يُوقدها بنو آدم هي جزءٌ من سبعين جزءاً من حَرِّ جهنم " وقيل : تبصرة في أمر البعث ؛ فإنه ليس أبدع من إخراج النار من الشيء الرطب، ﴿ومتاعاً للمُقْوين﴾ منفعة للمقوين المسافرين الذي ينزلون القِواء، وهو القفر. وفي القاموس : القِيُّ : فقر الأرض، كالِقواء - بالكسر والمد : القفر. هـ. وتخصيصهم بذلك ؛ لأنهم أحوج إليها ؛ فإنّ المقيمين والنازلين بقرب منازلهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد، أو : للذين خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام، من قولهم : أَقْوت الدار : إذا خلت من ساكنها. والأول أحسن.
بدأ أولاً بنعمة الإيجاد، ثم بإمداد الطعام، ثم بالشراب، وما يُعجن به من الطعام، ثم بما يطبخ به ؛ فلا يؤكل الطعام إلاّ بعد هذه الثلاث، ولا يستغني عنه الجسد ما دام حيّاً في حكم العادة.
٢٩٨