يقول الحق جلّ جلاله :﴿اعْلَموا أنما الحياةُ الدنيا لَعِبٌ﴾ كلعب الصبيان، ﴿وَلَهوٌ﴾ كلهو الفتيان، ﴿وزِينَةٌ﴾ كزينة النسوان، ﴿وتفاخر بينكم﴾ كتفاخر الأقران، ﴿وتكاثرٌ﴾ كتكاثر الدهقان - أي الفلاحين - ﴿في الأموال والأولاد﴾ أي : مباهاة بهما. والتكاثر : الاستكثار، والحاصل : أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء، فضلاً عن الاطمئنان بها، وأنها مع ذلك سريعة الزوال، وشيكة الاضمحلال، ولذلك قال :﴿كَمَثَل غيثٍ أعجَبَ الكفَّارَ﴾ أي : الحُرّاث، من : كَفَرَ الحبَ : ستره، ويقال : كفرت الغمامُ النجومَ : سترتها، أي : أعجب الزراع ﴿نباتُه﴾ أي : النبات الحاصل منه، ﴿ثم يَهيجُ﴾ أي : يجف بعد خضرته ونضارته، ﴿فتراه مُصْفراً﴾ بعد ما رأيته ناضراً مونِعاً، وإنما لم يقل : ثم تراه ؛ إيذاناً بأنّ اصفراره مقارن لجفافه. ﴿ثم يكون حُطاماً﴾ متفتتاً متكسراً، شبَّه حالَ الدنيا وسرعة تقضّيها مع قلة جدواها بنباتٍ أنبته الغيث، فاستوى وقوي، وأعجب به حُرّاثه، أو :
٣٢٢
الكفار الجاحدون لنعمة الله تعالى فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة، فهاج، واصفرّ وصار حطاماً.
وهذا المثل هو لمَن اشتغل بالدنيا، والجري عليها، وأمّا ما كان منها في طاعة الله، أو في الضرورات التي تُقيم الأولاد، وتُعين الطاعات، فلا يدخل في هذا المثل، وهذا مثال للإنسان ينشأ شابّاً قويّاً، حَسن المنظر والهيئة، ثم يأخذ في النقص والهرم، ثم يموت، ويضمحل أمره، وتصير الأموال لغيره. قال القشيري : الدنيا حقيرة، وأحقرُ منها قَدْراً : طالبُها، وأقلُّ منها خَطَراً : المُزاحِم فيها، فما هي إلاّ جيفة، وطلاب الجيفةِ ليس لهم خطر، وأخسُّهم مَن يبخل بها. وهذه الدنيا المذمومة هي ما شَغَل العبد عن الآخرة، فكل ما شغله عن الآخرة فهي الدنيا. هـ.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٢٢