وفي الآخرةِ عذابٌ شديدٌ} لمَن أعرض عن الله، ﴿ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ﴾ لمَن أقبل على الله، وزهد فيما سواه. والحاصل : أنّ الدنيا ليست إلاَّ محقراتٍ من الأمور، وهي اللعب، واللهو، والزينة، والتفاخر، والتكاثر، وأمّا الآخرة ؛ فما هي إلا أمورٌ عِظام، وهي العذاب الشديد، والمغفرة، والرضوان من الله الحميد. والكاف في " كَمَثَلِ " في محل رفع، خبر بعد خبر، ﴿وما الحياةُ الدنيا إِلا متاعُ الغُرور﴾ لمَن ركن إليها، واعتمد عليها، ومتاع الغرور : هو الذي يظهر ما حسن منه، ويبطن ما قبح، يفعله مَن يغر الناس ويغشهم، وكذلك الدنيا تُظهر لطلابها حلاوةً ووَلُوعاً، وتزداد عليهم شيئاً فشيئاً، فينهمكون في حلاوة شهواتها وبهجتها، ويغفلون عن الاستعداد، والعمر يفنى من يدهم في البطالة، فهي تغرهم وتخدعهم حتى تسوقهم إلى الموت مفلسين. قال ذو النون : يا معشر المريدين ؛ لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها فلا تحبوها، فإنّ الزاد منها، والمَقيل في غيرها.
ولمَّا حقَّر الدنيا، وصغّ أمرها، وعظّم أمر الآخرة، حَثَّ عبادَه على المسارعة إلى نيل ما وَعَد من ذلك، وهي المغفرة والرضوان، فقال :﴿سابِقوا﴾ بالأعمال الصالحة ﴿إِلى مغفرة من ربكم﴾ أو : سارِعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار، ﴿وجنةٍ عرضها كعرض السماء والأرض﴾ أي : كعرض سبع سموات، وسبع أرضين، إذا مدت إحداها حَذْو الأخرى، وذَكَر العرض دون الطول ؛ لأنّ كل ما له عرض وطول فعَرضه أقلّ من طوله، فإذا وصف عَرضه بالبسط عُرف أن طوله أبسط، وهذا تقريب لأفهام العرب، وإلاَّ فالجنة أعظم من ذلك مراراً، كيف لا والمؤمن الواحد يُعطي قدر الدنيا عشر مرات! ﴿أُعِدَّتْ﴾ تلك الجنة ﴿للذين آمنوا بالله ورسله﴾ وهو دليل أنها مخلوقة، ﴿ذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء﴾ وهم المؤمنون، وفيه دليل أنه " لا يدخل الجنة أحدٌ بعمله " كما في
٣٢٣


الصفحة التالية
Icon