﴿ثم قَفِّينا على آثارهم﴾ أي : نوح وإبراهيم، ومَن مضى من الأنبياء، أو : مَن عاصروهم من الرسل، ﴿برسلنا وقَفِّينا بعيسى ابن مريم﴾ أي : أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى ابن مريم. والتقفية : من القفا، كأنّ كل واحد جاء في قفا صاحبه من ورائه، ﴿وآتيناه﴾ أي : عيسى ﴿الإِنجيلَ﴾ وفيه لغتان كسر الهمزة وفتحه، وهو عجمي لا يلزم فيه أبنية العرب، ﴿وجعلنا في قلوب الذين ابتَعوه﴾ وهم النصارى ﴿رأفةً﴾ مودةً وليناً، ﴿ورحمةً﴾ تعطُّفاً على إخوانهم، وهذا ظاهر في النصارى دون اليهود، فأتباع عيسى أولاً كانوا الحواريين، وطائفة من اليهود، وكفرت به الطائفة الباقية، فالنصارى أشياع الحواريين، فما زالت الرحمة فيهم، وأما اليهود فقلوبهم أقسى من الحجر. ﴿ورهبانيةً ابتدعوها﴾ من باب الاشتغال، أي : وابتدعوا رهبانية ابتدعوها من عند أنفسهم. أو : معطوفة على ما قبلها، أي : وجعلنا في قلوبهم رهبانيةً مبتدَعةً مِن عندهم، أي : وقفيناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهابنية واستحداثها، وهي : المبالغة في الرهبة بالعبادة، والانقطاع عن الناس، وهي منسوبة إلى الرَهْبان، وهو الخائف، فعلان من : رَهَبَ، كخشيان، من خشي. وقرئ بضم الراء، نسبة إلى الرُّهْبان جمع راهب، كراكب وركبان. وسبب ابتداعهم إياها : أنَّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد رفع عيسى عليه السلام، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقُتل المؤمنون حتى لم يبقَ منهم إلاَّ القليل، فخافوا أن يفتونهم في دينهم، فاختاروا الرهبانية في قُلَل الجبال، فارين بدينهم، مختلِّصين أنفسهم. انظر الثعلبي فقد نقله حديثاً.
جزء : ٧ رقم الصفحة : ٣٢٧