جزء : ٨ رقم الصفحة : ٩٦
يقول الحق جلّ جلاله :﴿هو الذي جعل لكم الأرضَ ذلولا﴾ ؛ مذلّلة ليّنة يسهل عليكم سلوكها. وتقديم (لكم) على مفعول الجعل ؛ للاهتمام والتشويق، ﴿فامشُوا في مناكبها﴾ ؛ جوانبها، وهو تمثيل لفرط التذلُّل، فإنَّ منكب البعير أرقّ أعضائه وأصعبها على أن يطأها الراكب بقدميه، فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يتأتى المشي في مناكبها لم يبقَ منها شد لم يتذلّل، ﴿وكُلوا من رزقه﴾ أي : والتمسوا من رزق الله في سلوكها، أو إذا تعذّر العيس في أرضٍ فامشوا في مناكبها إلى أرض أخرى، كما قال الشاعر :
يا نفس مالكِ تهوي الإقامةَ في
أرض تعيش بين من ناواكِ بها
أما سمعتِ وعجز المرء منقصَةٌ
في محكم الوحي : فامشوا في مناكبها
٩٧
أو : كُلوا من رزق الله الخارج منها، ﴿وإِليه النُشورُ﴾ أي : الرجوع بالبعث، فتُسألون عن شكر هذه النعم.
ثم هدَّد مَن لم يشكر فقال :﴿أأمِنْتُم مَن في السماء﴾ من ملكوته وأسرار ذاته، وعبّر بها ؛ لأنها منزل قضاياه، وتدبيراته ووحيه، ومسكن ملائكته وأوامره ونواهيه، فكل ما يظهر في الأرض إنما يقضي به في السماء، وحينئذ يبرز، فكأنه قال : أأمِنتم خالق السموات ؟ وقال اللجائي : كل شيء علا فهو سماء، وسماء البيت : سقفه، وليس المقصود في الآية سماء الدنيا ؛ ولا غيرها من السبع الطباق، وإنما المعنى : أأمِنتم مَن في العلو، وهو علو الجلال، وليس كون الله في سماء الحوادث من صفات الكمال، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيراً. هـ. وسيأتي في الإشارة تحقيقة عند أهل التوحيد. أي : أأمِنتم مَن في السماء أسرار ذاته ﴿أن يخسف بكم الأرضَ﴾ كما خسف بقارون بعد ما جَعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها، وتأكلون من رزقه فيها، بحيث كفرتم تلك النعمة، فقلبها لكم ﴿فإِذا هي تمورُ﴾ ؛ تضطرب وتتحرّك.