يقول الحق جلّ جلاله :﴿ألم تَرَوْا كيف خلق اللهُ سبعَ سمواتٍ طباقاً﴾ أي : متطابقة بعضها فوق بعض، والرؤية هنا علمية ؛ إذ لا يُرى بالبصر إلاَّ واحدة، وعُلِّقت بالاستفهام، وعلمهم بذلك من جهة الوحي السابق، أو كانوا منجّمين، ﴿وجعلَ القمرَ فيهن نوراً﴾ أي :
١٤٦
يُنور وجه الأرض في ظلمة الليل، ونسبتُه إلى الكل مع أنه في سماء الدنيا ؛ لأنَّ بين السموات ملابسة، من حيث إنها طباق، فجاز أن يقال : فيهن، وإن لم يكن في جميعهن، كما يُقال : في المدينة كذا، وهو في بعض جوانبها. وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم : إن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السموات، وظهورهما مما يلي الأرض. فيكون نور القمر سارياً في جميع السموات ؛ لأنها لطيفة لاتحجب نوره. ﴿وجعل الشمسَ سِراجاً﴾ ؛ مصباحاً يزيل ظلمة الليل، ويُبصر أهلُ الدنيا في ضوئها وجه الأرض، ويُشاهدون الآفاق، كما يُبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره، وليس القمر بهذه المثابة، إنما هو نور في الجملة، فنور الشمس أقوى، ومنه يستمد نور القمر، وأجمعوا أنَّ الشمس في السماء الرابعة.
﴿واللهُ أنبتكم من الأرض نباتاً﴾ أي : أنشأكم منها، فاستغير الإنبات للإنشاء ؛ لكونه أدل على الحدوث والتكوُّن من الأرض. و " نباتاً " إمّا مصدر مؤكد لأنبتكم، بحذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر، وحكمة إجراء اللفظ فيه على غير فعله : التنبيه على تحتُّم القدرة وسرعة نفوذ حكمها، حتى كأنَّ إنبات الله تعالى نفس النبات، فقرَن أحدهما بالآخر، ونحوه قوله تعالى :﴿أّنِ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ﴾ [الأعراف : ١٦] أي : فضرب فانبجست، فجعل الانبجاس مسبباً عن الايحاء، للدلالة على سرعة نفوذ حكم القدرة، أو : لفعل مترتب عليه، أي : أَنبتكم فنبتم نباتاً، ﴿ثُم يُعيدكم فيها﴾ بعد الموت ﴿ويُخرجكم﴾ يوم القيامة بالبعث والحشر ﴿إِخراجاً﴾ محققاً لا ريب فيه، ولذا أكّده بالمصدر.


الصفحة التالية
Icon