الإشارة : ينبغي للداعي إلى الله أن ينبسط عند الضعفاء، ويُقبل عليهم بكليته ويواجههم بالبشاشة والفرح، سواء كانوا ضعفاء الأموال، أو ضعفاء الأبدان، كالعُميان والمحبوسين والمرضى، أو : ضعفاء اليقين، إن أقبلوا إليه، فقد كان الشيخ أبو العباس المرسي يحتفل بملاقاة أهل العصيان والجبابرة أكثر مِن غيرهم، فقيل له في ذلك، فقال : هؤلاء يأتونا فقراء منكسرين، بخلاف غيرهم من العلماء والصالحين. قلت : وكذلك رأيتُ حال أشياخنا ـ رضي الله عنهم ـ يَبرون بالجبابرة وأهل العصيان، ليجرُّوهم بذلك إلى الله تعالى، قالوا : يأتينا الرجل سَبُع فنهلس عليه فيرجع ذئباً، ثم نهلس عليه فيرجع قِطاً، ثم نجعل السلسلة في عنقه ونقوده إلى ربه. نَعَم إن تزاحم حق الفقراء وحق الجبابرة في وقت واحدٍ قدّم حقَّ الفقراء ؛ لشرفهم عند الله، إلاّ إن كانوا راسخين، فيُقَدِّم عليهم غيرهم ؛ لأنهم حينئذ يحبون الإيثار عليهم.
قال الورتجبي : بيَّن الله تعالى هنا ـ يعني في هذه الآية ـ درجةَ الفقر، وتعظيم أهله،
٢٣٩
وخِسّة الدنيا، وتحقير أهلها، وأنَّ الفقير إذا كان بنعت الصدق والمعرفة والمحبة كان شرفاً له، وهو من أهل الصُحبة، ولا يجوز الاشتغال بصُحبة الأغنياء، ودعوتهم إلى طريق الفقراء، إذا كان سجيتهم لم تكن بسجية أهل المعرفة، فإذا كان حالهم كذلك لا يأتون إلى طريق الحق بنعت التجريد، فالصُحبة معهم ضائعة، إلا ترى كيف عاتب الله نبيَّه بهذه الآية بقوله :﴿أمّا مَن استغنى..﴾ الآية، كيف يتزكَّى مَن خُلق على جبِلة حب الدنيا والعمى عن الآخرة والعُقبى. هـ.
جزء : ٨ رقم الصفحة : ٢٣٧