وقوله تعالى :﴿خَلَق الإِنسانَ﴾ بتخصيص للإنسان بالذكر من بين ما يتناوله لشرفه، ولأنَّ التنزيل إنما هو إليه، ويجوز أن يُراد : الذي خلق الإنسان، إلاَّ أنه ذكر مبهماً، ثم فسّر تفخيماً لخلقه، ودلالةً على عجيب فطرته. قيل : لمَّا ذكر فيما قبل أنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك، ذكره هنا منبهاً على شيءٍ من أطواره، وذكر نعمته عليه، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك، وما يؤول إليه حاله في الآخرة، فإنه تفسير لقوله :﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِيا أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ [التين : ٤، ٥]، ثم ذكر أصل نشأته بقوله :﴿مِن علقٍ﴾ ولم يقل من علقة ؛ لأنَّ الإنسان في معنى الجمع. وفيه
٣٢٧
إشارة إلى أنَّ ابتداء الدين كابتداء خلق الإنسان، كان ضعيفاً ثم تقوّى شيئاً فشيئاً حتى انتهى كماله.
ثم كرّر الأمر بالقراءة بقوله :﴿اقرأْ﴾ أي : افعل ما أُمرتَ به، تأكيداً للإيجاب وتمهيداً لقوله :﴿وربُّك الأكرمُ﴾ فإنه كلام مستأنف، وارد لإزاحة ما أظهر عليه السلام من العُذر بقوله :" ما أنا بقارىء " يريد أنّ القراءة من شأن مَن يكتب ويقرأ، وأنا أمي، فقيل له :﴿وربك﴾ الذي أمرك بالقراءة مستعيناً باسمه هو ﴿الأكرم﴾ أي : مِن كل كريم، يُنعم على عباده بغاية النعم، ويحلم عنهم إذا عصوه، فلا يعاجلهم بالنقم، فليس وراء التكرُّم بهذه الفوائد العظيمة تكرُّم. ﴿الذي عَلَّم﴾ الكتابة ﴿بالقلم عَلَّم الإِنسانَ ما لم يعلم﴾ فدلّ على كمال كرمه بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. ونبّه على فضل علم الكتابة لِما فيه من المنافع العظيمة، وما دُوّنت العلوم ولا قُيّدت الحِكم ولا ضُبِطت أخبار الأولين، ولا كُتب الله المنزّلة، إلاَّ بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى دليل إلاّ أمر القلم والخطّ لكفى به وفي ذلك يقول ابن عاشر الفاسي :