" صفحة رقم ٢٩٨ "
والاشتراء افتعال من الشري وفعله شرى الذي هو بمعنى باع كما أن اشترى بمعنى ابتاع فاشترى وابتاع كلاهما مطاوع لفعله المجرد أشار أهل اللسان إلى أن فاعل هذه المطاوعة هو الذي قبل الفعل والتزمه فدلوا بذلك على أنه آخذ شيئاً لرغبة فيه، ولما كان معنى البيع مقتضياً آخذين وباذلين كان كل منهما بائعاً ومبتاعاً باختلاف الاعتبار، ففعل باع منظور فيه ابتداء إلى معنى البذل والفعل ابتاع منظور فيه ابتداء إلى معنى الأخذ فإن اعتبره المتكلم آخذاً لما صار بيده عَبَّر عنه بمبتاع ومشتر، وإن اعتبره باذلاً لما خرج من يده من العوض، عَبَّر عنه ببائع وشار، وبهذا يكون الفعلان جاريين على سَنَن واحد، وقد ذكر كثير من اللغويين أن شرى يستعمل بمعنى اشترى والذي جرَّأهم على ذلك سوء التأمل في قوله تعالى :( وشَرَوْه بثمن بخس دراهمَ معدودةٍ ( ( يوسف : ٢٠ ) فتوهموا الضمير عائداً إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى :( وجاءت سيارة ( ( يوسف : ١٩ ) أي باعوه، وحسبك شاهداً على ذلك قوله :( وكانوا فيه من الزاهدين ( ( يوسف : ٢٠ ) أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين ألا ترى إلى قوله لامرأته :( أكرمي مثواه ( ( يوسف : ٢١ ).
وعلى ذينك الاعتبارين في فعلي الشراء والبيع كانت تعديتهما إلى المفعول فهما يتعديان إلى المقصود الأصلي بأنفسهما وإلى غيره بالباء فيقال باع فرسه بألف وابتاع فرس فلان بألف لأن الفرس هو الذي كانت المعاقدة لأجله لأن الذي أخرجه ليبيعه علم أن الناس يرغبون فيه والذي جاء ليشتريه كذلك.
وإطلاق الاشتراء ههنا مجاز مرسل بعلاقة اللزوم، أطلق الاشتراء على لازمه الثاني وهو الحرص على شيء والزهد في ضده أي حَرَصوا على الضلالة، وزَهِدوا في الهدى إذ ليس في ما وقع من المنافقين استبدال شيء بشيء إذ لم يكونوا من قبل مهتدين.
ويجوز أن يكون الاشتراء مستعملاً في الاستبدال وهو لازمه الأول واستعماله في هذا اللازم مشهور. قال بشامة بن حَزن :
إِنَّا بني نَهْشَللٍ لا نَدَّعِي لأَبٍ
عنه ولا هُوَ بالأبناء يَشْرينا
أي يبيعنا أي يبدلنا، وقال عنترة بن الأَخرس المَعْني من شعراء ( الحماسة ) :
ومَنْ إِنْ بِعْتَ منزلة بأخرى
حَلَلْتَ بأمره وبه تَسير