" صفحة رقم ٣٩ "
فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بينا وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال :( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته، وليتذكر أولوا الألباب ( سواء قلنا إنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول علمائنا والمشائخي والسكاكي وهما من المعتزلة، أم قال قائل بقول بقية المعتزلة إن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى غير ممكن وهو خلاف لا طائل تحته إذ القصد هو الإمكان الوقوعي لا العقلي، فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم مع تعذر الاطلاع على تمامه.
وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه، ومستودعا لمراده، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها : منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا، وأكثرها تحملا للمعاني مع أيجاز لفظه، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها، فهم المخاطبون ابتداءا قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة، وإصلاح أحوالهم قال تعالى ) ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ( وقال ) أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنا عن دراستهم لغافلين، أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ( لكن ليس ذلك بوجه للاقتصار على أحوالهم كما سيأتي.
أليس قد وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها فلنلم بها الآن بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا وهي ثمانية أمور :