" صفحة رقم ١٧٧ "
ومعنى ) ولا ينفقونها في سبيل الله ( انتفاء الإنفاق الواجب، وهو الصدقات الواجبة والنفقاتُ الواجبة : إمّا وجوباً مستمرّاً كالزكاة، وإمّا وجوباً عارضاً كالنفقة في الحجّ الواجببِ، والنفقة في نوائب المسلمين ممّا يدعو الناسَ إليه وُلاَةُ العدل.
والضمير المؤنّث في قوله :( ينفقونها ( عائد إلى الذهب والفضة.
والوعيد منوط بالكَنز وعدممِ الإنفاق، فليس الكنز وحْده بمتوعد عليه، وليست الآية في معرض أحكام ادّخار المال، وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبل البرّ والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تُؤدّ زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل ) سبيل الله ( بالصدقات الواجبة، لأنّه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى ادّعاء أنّها نسختها آية وجوب الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية.
ووقع في ( الموطأ ) أنّ عبد الله بن عُمر سئل عن الكنز، أي المذموم المتوعّد عليه في آية ) والذين يكنزون الذهب والفضة ( الآيةِ ما هو ؟ فقال : هو المال الذي لا تؤدَّى منه الزكاة. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنّ النبي ( ﷺ ) قال :( من كان عنده مال لم يؤدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زَبيبَتَان يُطَوَّقه ثم يأخذ بلَهْزَمَتَيْهِ يعني شِدْقيه ثم يقول : أنا مالك أنا كَنزُك ) فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه، أي فهو الكنز المذموم في الكتاب والسنّة وليس كلّ كنز مذموماً.
وشذّ أبو ذرّ فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز، وعلى عموم الإنفاق، وحَمَل سبيل الله على وجوه البرّ، فقال بتحريم كَنز المال، وكأنّه تأول ) ولا ينفقونها ( على معنى ما يسمّى عطف التفسير، أي على معنى العطف لمجرّد القرن بين اللفظين، فكان أبو ذرّ بالشام ينهى الناس على الكنز ويقول : بشّر الكانزين بمكاو من نار تكْوَى بها جباههم وجُنوبهم وظهورهم، فقال له معاوية : وهو أمير الشام، في خلافة عثمان : إنّما نزلت الآية في أهل الكتاب، فقال أبو ذرّ : نزلت فيهم وفينا، واشتدّ قول أبي ذرّ على الناس ورأوه قولاً لم يقله أحد في زمن رسول الله صلى الله