" صفحة رقم ١٨٢ "
عندهم، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم، فلمّا أراد الله أن يجعل للناس عبادات ومواسم وأعياداً دورية تكون مرّة في كلّ سنة، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبَنِيه حجّ البيت كلّ سنة في الشهر الثاني عشر، وجعل لهم زمناً محترماً بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم، فلمّا حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب، وإيداعه الإلهام بالتفطّن لحكمتها، والتمكّن من ضبط مطرد أحوالها، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها، كان ذلك كلّه مراداً عنده فلذلك قال :( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض ).
فمعنى قوله :( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ( : أنّها كذلك في النظام الذي وضَع عليه هذه الأرض التي جعلها مقرَّ البشر باعتبار تمايز كلّ واحد فيها عن الآخر، فإذا تجاوزت الاثني عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلاً لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئاً مكرّراً.
و ) عند الله ( معناه في حكمه وتقديره، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد، وهو ظرف معمول ل ) عدّة ( أو حال من ) عدّة ( و ) في كتاب الله ( صفة ل ) اثنا عشر شهراً ).
ومعنى ) في كتاب الله ( في تقديره، وهو التقدير الذي به وُجدت المقدورات، أعني تعلقّ القدرة بها تعلّقاً تنجيزياً كقوله :( كتابا مؤجلا ( ( آل عمران : ١٤٥ ) أي قدرا محدّداً، فكتاب هنا مصدر.
بيان ذلك أنّه لمّا خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقاً لحساب الزمان كما قال :( وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ( ( يونس : ٥ ) ولذلك قال هنا ) يوم خلق السماوات والأرض ( ف ) يومَ ( ظرف ل ) كتاب الله ( بمعنى التقدير الخاصّ، فإنّه لما خلق السماوات والأرض كان ممّا خلَق هذا النظامُ المنتسب بين القمر والأرض.
ولهذا الوجه ذُكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات، لأنّ تلك الظواهر التي للقمر، وكان بها القمر مجزَّءاً أجزاء، منذُ كونِه هلالاً، إلى رُبعه الأول، إلى البدر، إلى الربُع الثالث، إلى المحاق، وهي مقادير الأسابيع، إنّما هي


الصفحة التالية
Icon