" صفحة رقم ١١٧ "
شبه إنزال القرآن الذي به الهدى من السماء بإنزال الماء الذي به النفع والحياة من السماء. وشبه ورود القرآن على أسماع الناس بالسيل يمر على مختلف الجهات فهو يَمرّ على التّلال والجبال فلا يستقر فيها ولكنه يمضي إلى الأودية والوهاد فيأخذ منه كُلّ بقدر سعته. وتلك السيول في حال نزولها تحمل في أعاليها زَبَداً، وهو رغوة الماء التي تربو وتطفو على سطح الماء، فيذهب الزبد غير منتفع به ويبقى الماء الخالص الصافي ينتفع به الناس للشراب والسقي.
ثم شُبهت هيئة نزول الآيات وما تحتوي عليه من إيقاظ النظر فيها فينتفع به من دخل الإيمان قلوبهم على مقادير قوة إيمانهم وعملهم، ويمر على قلوب قوم لا يشعرون به وهم المنكرون المعرضون، ويخالط قلوبَ قوم فيتأملونه فيأخذون منه ما يثير لهم شبهات وإلحاداً. كقولهم :( هل ندلّكم على رجل ينبئكم إذا مُزّقتم كلّ ممزّق إنكم لفي خلق جديد ). ومنه الأخذ بالمتشابه قال تعالى :( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ( سورة آل عمران : ٧ ).
شبه ذلك كله بهيئة نزول الماء فانحدَارِه على الجبال والتلال وسيلانه في الأودية على اختلاف مقاديرها، ثم ما يدفع من نفسه زبداً لا ينتفع به ثم لم يلبث الزبد أن ذهب وفني والماء بقي في الأرض للنفع.
ولما كان المقصود التشبيه بالهيئة كلها جيء في حكاية ما ترتب على إنزال الماء بالعطف بفاء التفريع في قوله : فسالت ( وقوله :( فاحتمل ( فهذا تمثيل صالح لتجزئة التشبيهات التي تركب منها وهو أبلغ التمثيل.
وعلى نحو هذا التمثيل وتفسيره جاء ما يبينه من التمثيل الذي في قول النبي ( ﷺ ) ( مثَل ما بعثني الله به من الهُدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقيّة قبلتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناسَ فشربوا وسقَوا