" صفحة رقم ٣٣٣ "
وكان مقتضى الظاهر في ترتيب الوصفين أن يقدم ) الصالحات ( على ) والباقيات ( لأنهما وإن كانا وصفين لموصوف محذوف إلا أن أعرفهما في وصفية ذلك المحذوف هو الصالحات، لأنه قد شاع أن يقال : الأعمال الصالحات ولا يقال الأعمال الباقيات، ولأن بقاءها مترتب على صلاحها، فلا جرم أن الصالحات وصف قام مقام الموصوف وأغنى عنه كثيراً في الكلام حتى صار لفظ ( الصالحات ) بمنزلة الاسم الدال على عمل خير، وذلك كثير في القرآن قال تعالى :( وعملوا الصالحات ( الكهف : ١٠٧ )، وفي كلامهم قال جرير :
كيف الهجاء وما تنفك صالحةٌ
من آل لأم بِظَهر الغيب تأتيني
ولكن خولف مقتضى الظاهر هنا، فقدم ( الباقيات ) للتنبيه على أن ما ذكر قبله إنما كان مفصولاً لأنه ليس بباققٍ، وهو المال والبنون، كقوله تعالى : وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ( الرعد : ٢٦ )، فكان هذا التقديم قاضياً لحق الإيجاز لإغنائه عن كلام محذوف، تقديره : أن ذلك زائل أو ما هو بباق والباقيات من الصالحات خير منه، فكان قوله : فأصبح هشيماً تذروه الرياح ( الكهف : ٤٥ ) مفيداً للزوال بطريقة التمثيل وهو من دلالة التضمن، وكان قوله : والباقيات ( مفيداً زوال غيرها بطريقة الالتزام، فحصل دلالتان غير مطابقتين وهما أوقع في صناعة البلاغة، وحصل بثانيتهما تأكيد لمفاد الأولى فجاء كلاماً مؤكداً موجزاً.
ونظير هذه الآية آية سورة مريم قوله :( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير مرداً ( مريم : ٧٦ ) فإنه وقع إثر قوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاماً وأحسن ندياً وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثاً ورئياً ( مريم : ٧٣ ٧٤ ) الآية.
وتقديم المال على البنين في الذكر لأنه أسبق خطوراً لأذهان الناس، لأنه يرغَب فيه الصغير والكبير والشاب والشيخ ومن له من الأولاد ما قد كفاه ولذلك أيضاً قدم في بيت طرفة المذكور آنفاً.


الصفحة التالية
Icon