" صفحة رقم ٣٤٧ "
من ذكر الناس بالأصالة، ولا مقتضي للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس.
والناس : اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة، والمقصود على الخصوص المشركون، كما دل عليه جملةُ ) وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً (، فوزانه وزان قوله :( ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا ( الإسراء : ٨٩ )، وسيجيء قوله : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق ( الكهف : ٥٦ ). وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة.
وجملة وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ( تذييل، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز، والتقدير : فجَادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلاً، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم، وحرف ( ال ) فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموماً من لفظ الناس. والمعنى : أنهم جادلوا. والجدال : خلق، منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ويبقى في خلق المشركين، ومنه محمود كما في قوله تعالى :( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب ( هود : ٧٤ ٧٥ )، فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود. وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالى : يقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً ( مريم : ٦٦ ) ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل، لأن هذا سيجيء في قوله تعالى : ويجادل الذين كفروا بالباطل ( الآية، فقوله هنا :( وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ( تمهيد لقوله بعده ) ويجادل الذين كفروا بالباطل ( الكهف : ٥٦ ).
و ( شيء ) اسم مفرد متوغل في العموم. ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه، أي أكثر الأشياء. واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مثل قوله : رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه ( يوسف : ٣٣ )، وإنما أتي بصيغته لقصد المبالغة في شدة جدل الإنسان وجنوحه إلى المماراة والنزاع حتى فيما تَرْك الجدال في شأنه أحسن، بحيث إن شدة الوصف فيه تشبه تفوقه في الوصف على كل من يعرض أنه موصوف به.