" صفحة رقم ١٨٤ "
والذي يشهد لذلك ويرجحه أن القرآن لمَّا ذكرَ هذه القصةَ لأهل مدين وصف شعيباً بأنه أخوهم، ولما ذكرها لأصحاب ليكة لم يصف شعيباً بأنه أخوهم إذ لم يكن شعيب نسيباً ولا صهراً لأصحاب ليكة، وهذا إيماء دقيق إلى هذه النكتة. ومما يرجح ذلك قوله تعالى في سورة الحجر ( ٧٨، ٧٩ ) ) وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين، فجعل ضميرهم مثنى باعتبار أنهم مجموع قبيلتين : مدين وأصحاب ليكة. وقد بيّنّا ذلك في سورة الحجر. وإنما تُرسل الرسل من أهل المدائن قال تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يُوحَى إليهم من أهل القرى ( ( يوسف : ١٠٩ ) وتكون الرسالة شاملة لمن حول القرية.
وافتتح شعيب دعوته بمثل دعوات الرسل من قبله للوجه الذي قدمناه.
وشمل قوله :( ألا تتقون ( النهي عن الإشراك فقد كانوا مشركين كما في آية سورة هود.
١ ١٨٣ ) ) أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ ).
استئناف من كلامه انتقل به من غرض الدعوة الأصلية بقوله :( ألا تَتّقون ( ( الشعراء : ١٧٧ ) إلى آخره إلى الدعوة التفصيلية بوضع قوانين المعاملة بينهم، فقد كانوا مع شركهم بالله يطفّفون المكيال والميزان ويبخسون أشياء الناس إذا ابتاعوها منهم، ويفسدون في الأرض. فأما تطفيف الكيل والميزان فظلمٌ وأكل مال بالباطل، ولما كان تجارهم قد تمالؤوا عليه اضطر الناس إلى التبايع بالتطفيف.
و ) أوفوا ( أمر بالإيفاء، أي جعل الشيء وافياً، أي تاماً، أي اجعلوا الكيل غير ناقص. والمُخْسِر : فاعل الخسارة لغيره، أي المُنقص، فمعنى ) ولا تكونوا من المخسرين ( لا تكونوا من المطفّفين. وصوغ ) من المخسرين ( أبلغ من : لا تكونوا مُخسرين. لأنه يدل على الأمر بالتبرُّؤ من أهل هذا الصنيع، كما تقدم آنفاً في عدة آيات منها قوله :( لتكونَنَّ من المرجومين ( ( الشعراء : ١١٦ ) في قصة نوح.