" صفحة رقم ٢٠٧ "
وحيثما وقعت ﴿أَمْ﴾ فهي مؤذنة باستفهام بالهمزة بعدها الملتزم حذفها بعد ﴿أَمْ﴾ والاستفهام المقدر بعدها هنا تعجيبي لأنهم قالوا هذا القول الشنيع وعُلِّمه الناس عنهم فلا جرم كانوا أحقَّاء بالتعجيب من حالهم ومقالهم لأنهم أبدوا به أمراً غريباً يُقضى منه العجب لدى العقلاء ذوي الأحلام الراجحة والنفوس المنصفة، إذ دلائل انتفاء الريب عن كونه من رب العالمين واضحة بَله الجزم بأنه مفترى على الله تعالى.
وصيغ الخبر عن قولهم العجيب بصيغة المضارع لاستحضار حالة ذلك القول تحقيقاً للتعجيب منه حتى لا تغفل عن حال قولهم أذهانُ السامعين كلفظ (تقول) في بيت هُذْلول العنبري من شعراء الحماسة:
تقول وصكّت صدرَها بيمينها
أبعلي هذا بالرَّحَى المتقاعسُ
وفي المضارع مع ذلك إيذان بتجدد مقالتهم هذه وأنهم لا يقلعون عنها على الرغم مما جاءهم من البينات رغم افتضاحهم بالعجز عن معارضته.
والضمير المرفوع في ﴿افْتَرَا هُ ﴾ عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلّم لأنه معلوم من مقام حكاية مقالهم المشتهر بين الناس، والضمير المنصوب عائد إلى ﴿الْكِتَابَ﴾ (السجدة: ٢). وأضرب على قولهم ﴿افْتَرَا هُ ﴾ إضراب إبطال بـ ﴿بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ﴾ لإثبات أن القرآن حق، ومعنى الحق: الصدق، أي: فيما اشتمل عليه الذي منه أنه منزَّل من الله تعالى. وتعريف ﴿الْحَقُّ﴾ تعريف الجنس المفيد تحقيق الجنسية فيه. أي: هو حق ذلك الحق المعروفة ماهيته من بين الأجناس والمفارق لجنس الباطل. وفي تعريف المسند بلام الجنس ذريعة إلى اعتبار كمال هذا الجنس في المسند إليه وهو معنى القصر الادعائي للمبالغة نحو: أنت الحبيب وعمرو الفارس.
و﴿مِن رَّبِّكَ﴾ في موضع حال من ﴿الْحَقُّ﴾ والحق الوارد من قِبل الله لا جرم أنه أكمل جنس الحق. وكاف الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلّم واستحضرت الذات العلية هنا بعنوان ﴿رَّبِّكَ﴾ لأن الكلام جاء رداً على قولهم ﴿افْتَرَا هُ ﴾ يعنون النبي صلى الله عليه وسلّم فكان مقام الرد مقتضياً تأييد من ألصقوا به ما هو بريء منه بإثبات أن الكتاب حق من ربِّ من ألصقوا به الافتراء تنويهاً بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام


الصفحة التالية
Icon