" صفحة رقم ٩٢ "
والتفريق بين متشابهاتها، وسبروا أحوال البشر، وتعرضت أفهامهم زماناً لتصاريف الشريعة، وتوسموا مراميها، وغاياتها وعصموا أنفسهم بوازع الحق عن أن يميلوا مع الأهواء.
إن المجتَمع الإنساني قد مُني عصوراً طويلة بأوهام وعوائد ومألوفات أدخلها عليه أهل التضليل، فاختلطت عنده بالعلوم الحق فتقاول الناس عليها وارتاضوا على قبولها، فالتصقت بعقولهم التصاق العنكبوت ببيته، فتلك يخاف منها أن تُتلقى بالتسليم على مرور العصور فيعسر إقلاعهم عنها وإدراكهم ما فيها من تحريف عن الحَق، فليس لتمييزها إلا أهل الرسوخ أصحاب العلوم الصحيحة الذين ضربوا في الوصول إلى الحقائق كلَّ سبيل، واستوضحوا خطيرها وسليمها فكانوا للسابلة خيرَ دليل. وكونُ الإسلام هو الفطرة، وملازمة أحكامه لمقتضيَات الفطرة صفة اختص بها الإسلام من بين سائر الأديان في تفاريعه، أما أصوله فاشتركت فيها الأديان الإلهية، وهذا ما أفاده قوله ) ذلك الدين القيّم. ( فالإسلام عام خالد مناسب لجميع العصور وصالح بجميع الأمم، ولا يستتب ذلك إلا إذا بنيت أحكامه على أصول الفطرة الإنسانية ليكون صالحاً للناس كافة وللعصور عامة وقد اقتضى وصف الفطرة أن يكون الإسلام سمحاً يُسْراً لأن السماحة واليسر مبتغى الفطرة.
وفي قوله ) التي فطر الناس عليها ( بيان لمعنى الإضافة في قوله ) فطرة الله ( وتصريح بأن الله خلق الناس سالمةٌ عقولهم مما ينافي الفطرة من الأديان الباطلة والعادات الذميمة، وأن ما يدخل عليهم من الضلالات ما هو إلا من جرَّاء التلقي والتعود، وقد قال النبي ( ﷺ ) ( يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصِّرانه أو يُمجسانه كما تُنتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تُحِسُّون فيها من جَدعاء )، أي كما تولد البهيمة من إبل أو بقر أو غنم كاملة جمعاء أي بذيلها، أي تُولد كاملة ويعمد بعض الناس إلى قطع ذيلها وجدعه وهي الجدعاء، و ( تُحسون ) تدركون بالحس، أي حاسّة البصر. فجعل اليهودية والنصرانية مخالفة الفطرة، أي في تفاريعهما.