" صفحة رقم ٢٥٩ "
والنهي في الظاهر موجه إلى الناس والمنهي عنه من أحوال الحياة الدنيا، وليست الحياة الدنيا من فعل الناس، فتعين أن المقصود النهي عن لازم ذلك الإِسناد وهو الاغترار لمظاهر الحياة. ونظيره كثير في كلام العرب كقولهم : لا أعرفنَّك تفعل كذا، ولا أرَيَنَّك ههنا، ولا يجرمنكم شنآن قوم ( ( المائدة : ٢ )، وتقدم نظيره في قوله تعالى :( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد آخر آل عمران.
وكذلك القول في قوله تعالى : ولا يغرنكم بالله الغرور ).
والغرور بفتح الغين : هو الشديد التغرير. والمراد به الشيطان، قال تعالى :( فدلاهما بغرور ( ( الأعراف : ٢٢ ). وهو يغير الناس بتزيين القبائح لهم تمويهاً بما يلوح عليها من محاسن تلائم نفوس الناس.
والباء في قول ) بالله ( للملابسة وهي داخلة على مضاف مقدر أي، بشأن الله، أي يتطرق إلى نقض هدى الله فإن فعل غرّ يتعدّى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى بعض متعلقاته عُدّي إليه بواسطة حرف الجرّ، فقد يعدّى بالباء وهي باء الملابسة كقوله تعالى :( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ( ( الانفطار : ٦ ) وقوله في سورة الحديد :( وغركم بالله الغرور وذلك إذا أريد بيان من الغرور ملابس له على تقدير مضاف، أي بحال من أحواله. وتلك ملابسة الفعل للمفعول في الكلام على الإِيجاز. وليست هذه الباء باء السببية.
وقد تضمنت الآية غرورين : غروراً يغتَرّه المرء من تلقاء نفسه ويزيّن لنفسه من المظاهر الفاتنة التي تلوح له في هذه الدنيا ما يتوهمه خيراً ولا ينظر في عواقبه بحيث تخفى مضارّه في بادىء الرأي ولا يظنّ أنه من الشيطان.
وغروراً يتلقاه ممن يغرّه وهو الشيطان، وكذلك الغرور كله في هذا العالم بعضه يمليه المرء على نفسه وبعضه يتلقاه من شياطين الإِنس والجن، فتُرِك تفصيل الغرور الأول الآن اعتناء بالأصل والأهم، فإن كل غرور يرجع إلى غرور الشيطان. وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى : من كان يريد العزة فللّه العزة جميعاً ( ( فاطر : ١٠ ).


الصفحة التالية
Icon