" صفحة رقم ٢٥٥ "
كل أحد يقر بأنه لا يحب ذلك، ولذلك أجيب الاستفهام بقوله :( فكرهتموه ).
وإنما لم يرد الاستفهام على نفي محبة ذلك بأن يقال : ألا يحب أحدكم، كما هو غالب الاستفهام التقريري، إشارة إلى تحقق الإقرار المقرَّر عليه بحيث يترك للمقرّر مجالاً لعدم الإقرار ومع ذلك لا يسعه إلا الإقرار. مثُلّت الغيبة بأكل لحم الأخ الميت وهو يستلزم تمثيل المولوع بها بمحبة أكل لحم الأخ الميت، والتمثيل مقصود منه استفظاع الممثَّل وتشويهه لإفادة الإغلاظ على المغتابين لأن الغيبة متفشية في الناس وخاصة في أيام الجاهلية.
فشبهت حالة اغتياب المسلم مَن هو أخوه في الإسلام وهو غائب بحالة أكل لحم أخيه وهو ميت لا يدافع عن نفسه، وهذا التمثيل للهيئة قابل للتفريق بأن يشبه الذي اغتاب بآكل لحم، ويشبه الذي اغتيب بأخ، وتشبه غَيْبته بالمَوت.
والفاء في قوله :( فكرهتموه ( فاء الفصيحة، وضمير الغائب عائد إلى ) أحدكم (، أو يعود إلى ) لحم ).
والكراهة هنا : الاشمئزاز والتقذر. والتقدير : إن وقع هذا أو إن عرض لكم هذا فقد كرهتموه.
وفاء الفصيحة تفيد الإلزام بما بعدها كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى :( فقد كذبوكم بما تقولون ( في سورة الفرقان، أي تدل على أن لا مناص للمواجه بها من التزام مدلول جواب شرطها المحذوف.
والمعنى : فتعيّن إقراركم بما سئلتم عنه من الممثَّل به ( إذ لا يستطاع جَحْدَهُ ) تحققتْ كراهتكم له وتقذركم منه، فليتحقق أن تكرهوا نظيره الممثَّل وهو الغِيبة فكأنه قيل : فاكرهوا الممثل كما كرهتم الممثل به.
وفي هذا الكلام مبالغات : منها الاستفهام التقريري الذي لا يقع إلا على أمر مسلّم عند المخاطب فجعلك للشيء في حيّز الاستفهام التقريري يقتضي أنك تدّعي أنه لا ينكره المخاطب.
ومنها جعل ما هو شديد الكراهة للنفس مفعولاً لفعل المحبة للإشعار بتفظيع


الصفحة التالية
Icon