" صفحة رقم ٦٢ "
وقد ورد ) ريب المنون ( في كلام العرب بالمعنيين ؛ فمن وروده في معنى الموت قول أبي ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع
والدهر ليس بمعتب من يجزع
ومن وروده بمعنى حدثنان الدهر قول الأعشى :
أإن رأت رجلاً أعشى أضرَّ بِهِ
ريبُ المنوننِ ودهرٌ مُتبِل خَبِلُ
أراد أضرّ بذاته حدَثان الدهر، ولم يرد إصابة الموت كما أراد أبو ذؤيب.
ولما كان انتفاء كونه شاعراً أمراً واضحاً يكفي فيه مجردُ التأمل لم يتصد القرآن للاستدلال على إبطاله وإنما اشتملت مقالتهم على أنهم يتربصون أن يحلّ به ما حلّ بالشعراء الذين هم من جملة الناس.
فأمر الله تعالى نبيئه ( ﷺ ) أن يجيبهم عن مقالتهم هذه بأن يقول :( تربصوا فإنى معكم من المتربصين ( ( الطور : ٣١ )، وهو جواب منصف لأن تربص حلول حوادث الدهر بأحد الجانيين أو حلول المنية مشترك الإِلزام لا يدري أحدنا ماذا يحل بالآخر.
وردت جملة ) قل تربصوا ( مفصولة بدون عطف لأنها وقعت في مقام المحاورة لسبقها بجملة ) يقولون شاعر ( ( الطور : ٣٠ ) الخ، فإن أمر أحد بأن يقول بمنزلة قوله فأُمر بقوله، ومثله قوله تعالى :( فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة ( ( الإسراء : ٥١ ).
والأمر في ) تربصوا ( مستعمل في التسوية، أي سواء عندي تربصكم بي وعدمه. وفرع عليه ) فإني معكم من المتربصين ( أي فإني متربص بكم مثل ما تتربصون بي إذ لا ندري أينا يصيبه ريب المنون قبل.
وتأكيد الخبر ب ( إن ) في قوله :( فإني معكم من المتربصين ( لتنزيل المخاطبين منزلة من ينكر أنه يتربص بهم كما يتربصون به لأنهم لغرورهم اقتصروا على أنهم يتربصون به ليروا هلاكه، فهذا من تنزيل غير المنكر منزلة المنكر.


الصفحة التالية
Icon