" صفحة رقم ١٠٨ "
قلت : وعلى جميع الوجوه فقد جعل الإِزلاق بأبصارهم على وجه الاستعارة المكنية، شبهت الأبصار بالسهام ورمز إلى المشبه به بما هو من روادفه وهو فعل ( يزلقونك ) وهذا مثل قوله تعالى :( إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ( ( آل عمران : ١٥٥ ).
وقرأ نافع وأبو جعفر ( يزلقونك ) بفتح المثناة مضارع زلَق بفتح اللام يزلق متعدياً، إذا نحاه عن مكانه.
وجاء ) يكاد ( بصيغة المضارع للدلالة على استمرار ذلك في المستقبل، وجاء فعل ) سمعوا ( ماضياً لوقوعه مع ) لَمَّا ( وللإِشارة إلى أنه قد حصل منهم ذلك وليس مجرد فرض.
واللام في ) ليزلقونك ( لام الابتداء التي تدخل كثيراً في خبر ) إن ( المكسورة وهي أيضاً تفرق بين ) إنْ ( المخففة وبين ( إنّ ) النافية.
وضمير ) إنه لمجنون ( عائد إلى النبي ( ﷺ ) حكاية لكلامهم بينهم، فمعاد الضمير كائن في كلام بعضهم، أو ليسَ للضمير معاد في كلامهم لأنه منصرف إلى من يتحدثون عنه في غالب مجالسهم.
والمعنى : يقولون ذلك اعتلالاً لأنفسهم إذ لم يجدوا في الذكر الذي يسمعونه مدخلاً للطعن فيه فانصرفوا إلى الطعن في صاحبه ( ﷺ ) بأنه مجنون لينتقلوا من ذلك إلى أن الكلام الجاري على لسانه لا يوثق به ليصرفوا دهماءهم عن سماعه، فلذلك أبطل الله قولهم :( إنه لمجنون ( بقوله :( وما هو إلاّ ذكر للعالمين، ( أي ما القرآن إلاّ ذكر للناس كلهم وليس بكلام المجانين، وينتقل من ذلك إلى أن الناطق به ليس من المجانين في شيء.
والذكر : التذكير بالله والجزاء هو أشرف أنواع الكلام لأن فيه صلاح الناس.
فضمير ) هو ( عائد إلى غير مذكور بل إلى معلوم من المقام، وقرينةُ السياق تُرجع كلَّ ضمير من ضميري الغيبة إلى معاده، كقول عباس بن مرداس :
عُدْنا ولولا نحن أحدقَ جمعُهم
بالمسلمين وأحرَزوا ما جمَّعوا
أي لأحْرز الكفار ما جمَّعه المسلمون.
وفي قوله :( ويقولون إنه لمجنون ( مع قوله في أول السورة ) ما أنت بنعمة ربّك بمجنون ( ( القلم : ٢ ) محسن ردّ العجز على الصدر.


الصفحة التالية
Icon