" صفحة رقم ١٩٠ "
فقوله :( إن الدين عند الله الإسلام ( صيغة حصر، وهي تقتضي في اللسان حصر المسند إليه، وهو الدين، في المسند، وهو الإسلام، على قاعدة الحصر بتعريف جزئي الجملة، أي لا دين إلا الإسلام، وقد أكّد هذا الانحصار بحرف التوكيد.
وقولُه :( عند الإسلام ( وصف للدين، والعندية عندية الاعتبار والاعتناءِ وليست عندية علم : فأفاد، أنّ الدين الصحيح هو الإسلام، فيكون قصراً للمسند، إليه باعتبار قيد فيه، لا في جميع اعتباراته : نظير قول الخنساء :
إذا قَبُحَ البُكاءُ على قتيل
رأيتُ بكاءَكَ الحَسَن الجَميلا
فحصرت الحَسَن في بكائه بقاعدة أنّ المقصور هو الحسن لأنّه هو المعرف باللاّم، وهذا الحصر باعتبار التقييد بوقتتِ حُجْ البكاء على القتلى وهو قصر حُسْن بكائها على ذلك الوقت، ليكون لبكائها على صخر مزية زائدة على بكاء القتلى المتعارف وإن أبى اعتبار القصر في البيت أصلاً صَاحب المطوّل.
وإذ قد جاءت أديان صحيحة أمر الله بها فالحصر مؤول : إمّا باعتبار أنّ الدين الصحيح عند الله، حينَ الإخبار، وهو الإسلام، لأنّ الخبر ينظر فيه إلى وقت الإخبار ؛ إذ الأخبار كلّها حقائق في الحال، ولا شك أنّ وقت الإخبار ليس فيه دين صحيح غير الإسلام ؛ إذ قد عرض لبقية الأديان الإلاهية، من خلط الفاسد بالصحيح، ما أختل لأجله مجموع الدين، وإما باعتبار الكمال عند الله فيكون القصر باعتبار سائر الأزمان والعصور ؛ إذ لا أكمل من هذا الدين، وما تقدّمه من الأديان لم يكن بالغاً غاية المراد من البشر في صلاح شؤونهم، بل كان كل دين مضى مقتصراً على مقدار الحاجة من أمة معيّنة في زمن معيّن، وهذا المعنى أولي محملي الآية، لأنّ مُفاده أعم، وتعبيره عن حاصل صفة دين الإسلام تُجاه بقية الأديان الإلهية أتم.
ذلك أنّ مراد الله تعالى من توجيه الشرائع وإرسال الرسل، ليس مجرّد قرع الأسماع بعبارات التشريع أو التذوّق لدَقائق تراكيبه، بل مراد الله تعالى ممّا شرع للناس هو عملهم بتعاليم رسله وكتبه، ولما كان المراد من ذلك هو العمل، جعل الله الشرائع مناسبة لقابليات المخاطبين بها، وجارية على قدر قبول عقولهم ومقدرتهم، ليتمكّنوا من العمل بها بدواممٍ وانتظام، فلذلك كان المقصود من التدّين أن يكون ذلك التعليم الديني


الصفحة التالية
Icon