" صفحة رقم ١٩١ "
دأباً وعادة لمنتحليه، وحيثُ النفوسُ لا تستطيع الانصياع إلى ما لا يتّفق مع مدركاتها، لا جرم تعيّن مراعاة حال المخاطبين في سائر الأديان. ليمكن للأمم العمل بتعاليم شرائعها بانتظام ومواظبة.
وقد كانت أحوال الجماعات البشرية، في أول عهود الحضارة، حالاتتِ عكوف على عوائد وتقاليد بسيطة، ائتلفت رُويدَا رويدَا على حسب دواعي الحاجات، وما تلك الدواعي، التي تسبّبت في ائتلاف تلك العوائد، إلاّ دواع غير منتشرة ؛ لأنّها تنحصر فيما يعود على الفرد بحفظ حياته، ودفع الآلام عنه، ثم بحفظ حياة من يرى له مزيد اتّصال به، وتحسيننِ حاله، فبذلك ائتلف نظام الفرد، ثم نظام العائلة، ثم نظام العشيرة، وهاته النُظُم المتقابسة هي نُظم متساوية الأشكال ؛ إذ كلّها لا يعدو حفظ الحياة، بالغذاء والدفاععِ عن النفس، ودفعَ الآلام بالكساء والمسكن والزواج، والانتصار للعائلة وللقبيلة ؛ لأنّ بها الاعتزاز، ثم ما نشأ عن ذلك من تعاون الآحاد على ذلك، بإعداد المعدّات : وهو التعاوض والتعامل، فلم تكن فكرة الناس تعدو هذه الحالة، وبذلك لم يكن لإحدى الجماعات شعور بما يجري لدى جماعة أخرى، فضلاً عن التفكير في اقتباس إحداها مما يجري لدى غيرها، وتلك حالة قناعة العيش، وقصور الهمة، وانعدام الدواعي فإذا حصلت الأسباب الآنفة عدّ الناس أنفسهم في منتهى السعادة.
وكان التباعد بين الجماعات في المواطن مع مشقة التواصُل، وما يعرض في ذلك من الأخطار والمتاعب، حائلاً عن أن يصادفهم ما يوجب اقتباس الأمم بعضها عن بعض وشعور بعضها بأخلاق بعض، فصار الصارف عن التعاون في الحضارة الفكرية مجموع حائلين : عدم الداعي، وانسداد وسائل الصدفة، اللهم إلاّ ما يعرض من وفادة وافد، أو اختلاط في نجعة أو موسم، على أنّ ذلك إن حصل فسرعان ما يطرأ عليه النسيان، فيصبح في خبر كان.
فكيف يرجى من أقوام، هذه حالهم، أن يدعوهم الداعي إلى صلاح في أوسع من دوائر مدركاتهم، ومتقارب تصوّر عقولهم، أليسوا إذا جاءهم مصلح كذلك لبسوا له جلد النمر، فأحسّ من سوء الطاعة حرق الجمر، لذلك لم تتعلّق حكمة الله تعالى،


الصفحة التالية
Icon