" صفحة رقم ٢٠١ "
وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرايق ثلاث : إحداها أنّه متاركة وإعْراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بياناً، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية، فليست محاجّتكم إياي إلاّ مكابرة وإنكاراً للبديهيات والضروريات، ومباهته، فالأجدر أن أكفّ عن الازدياد. قال الفخر : فإن المُحِقّ إذا ابتُلي بالمُبْطل اللَّجوج يقول : أمّا أنا فمنقاد إلى الحق. وإلى هذا التفسير مال القرطبي.
وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة :( أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن ( وقوله :( أأسلمتم ( دون أن يقال : فأعرض عنهم وقُل سلام، ضَرْباً من الإدماج ؛ إذ أدمج في قطع المجادلة إعادةَ الدعوة إلى الإسلام، بإظهار الفرق بين الدينين.
والقصد من ذلك الحرصُ على اهتدائهم، والإعذارُ إليهم، وعلى هذا الوجه فإنّ قوله :( وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم ( خارج عن الحاجة، وإنّما هو تكرّر للدعوة، أي اتْرُكْ محاجَّتهم ولا تَترك دعوتهم.
وليس المراد بالحِجاج الذي حاجَّهم به خصوصَ ما تقدم في الآيات السابقة، وإنّما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علِموه فمنهُ ما أشير إليه في الآيات السابقة، ومنه ما طُوي ذكره.
الطريقة الثانية أنّ قوله :( فقل أسلمت وجهي ( تلخيص للحجة، واستدراج لتسليمهم إياها، وفي تقريره وجوه مآلها إلى أنّ هذا استدلال على كون الإسلام حقاً، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني : إنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا متّفقين على أحقّية دين إبراهيم عليه السلام إلاّ زيادات زادتها شرائعهم، فكما أمر الله رسوله أن يتّبع ملة إبراهيم في قوله :( ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً ( ( النحل : ١٢٣ ) أمَرَه هنا أن يجادل الناس بمثل قوله إبراهيم : فإبراهيم قال :( إنّي وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ( ( الأنعام : ٧٩ ) ومحمد عليه الصلاة والسلام قال :( أسلمت وجهي لله ) أي فقد قلتُ ما قاله الله، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك، فكيف تنكرون أنّي عتلى الحق، قال : وهذا من باب التمسّك بالإلزامات وداخل تحت قوله :( وجادلهم بالتي هي أحسن ( ( النحل : ١٢٥ ).


الصفحة التالية
Icon