" صفحة رقم ٢٥٩ "
أخصّ من حياة بقية الأرواح ؛ فإنّ حياة الأرواح متفاوتة كما دلّ عليه حديث ( أرواح الشهداء في حواصل طيور خضْرٍ ) ورووا أنّ تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله، فمنهم من تأوّل معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها، وجعل حياته بحياة ثانية، فقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاثَ ساعات ورفعه فيها، ثم أحياه عنده في السماء. وقال بعضهم : توفّي سبع ساعات. وسكت ابن عباس ومالكٌ عن تعيين كيفية ذلك، ولقد وُفِّقا وسُدِّدا. ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء، وأن يكون نزوله إن حمل على ظاهره بعثاً له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ ( يبعث الله عيسى فيقتل الدجال ) رواه مسلم عن عبد الله بن عمر، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة.
وقد قيل في تأويله : إنّ عطف ) ورافعك إلي ( على التقديم والتأخير ؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إنّي رافعك إليّ ثم متوفيك بعد ذلك، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أنّ في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود :( ويمكث ( أي عيسى ) أربعين سنة ثم يُتوفى فيصلّي عليه المسلمون ) والوجه أن يحمل قوله تعالى :( إني متوفيك ( على حقيقته، وهو الظاهر، وأن تؤوّل الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حيّ على معنى حياة كرامة عند الله، كحياة الشهداء وأقوى، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل، أنّ ذلك يقوم مقام البعض، وأنّ قوله في حديث أبي هريرة ثم يتوفّى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنّه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى، وهم جَمْع من الصحابة، والروايات مختلفة وغير صريحة. ولم يتعرض القرآن في عدّ مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان.
والتطهير في قوله :( ومطهرك ( مجازي بمعنى العصمة والتنزيه ؛ لأنّ طهارة عيسى هي هي، ولكن لو سُلط عليه أعداؤُه لكان ذلك إهانة له.
وحذف متعلق ( كفروا ) لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود، لأنّ اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى، ولأنّ عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيرُه لا يظنّ أنّه تطهيرٌ من المشركين بقرينة السياق.


الصفحة التالية
Icon